الجيش الإسرائيلي في قبضة المتدينين

الجيش الإسرائيلي في قبضة المتدينين.. مقدمات وتبعات



صالح محمد النعامي

 

– دور يشيفوت ههسدير

– العمود الفقري للجيش

– تكريس النزعات الانفصالية

– مستقبل الصراع

 

كان تحذير رئيس الموساد الأسبق الجنرال داني ياتوم واضحاً وقاطعاً، فإمكانية أن يحدث انقلاب عسكري على الحكومات المنتخبة في إسرائيل أصبحت أمراً وارداً بسبب هيمنة المتدينين على المواقع القيادية في الجيش الإسرائيلي.

 

ولأنه ظل يُنظر إلى مثل هذا السيناريو في إسرائيل حتى وقت قريب على أنه محض خيال، فإن المخاوف على استقرار النظام السياسي بسبب اندفاع المتدينين الصهاينة نحو المواقع القيادية في الجيش أصبحت حديث الساعة في الدولة العبرية، فإلى جانب ياتوم فإن هناك عدداً كبيراً من الجنرالات المتقاعدين والساسة، فضلاً عن الباحثين والصحفيين ممن يرى في تغلغل أتباع التيار الديني الصهيوني الواسع في الجيش أكبر خطر يهدد النظام الديمقراطي في الدولة العبرية، لدرجة أن هناك من دعا إلى التوقف عن استيعاب المتدينين الصهاينة في الوحدات القتالية وسد الطريق أمام تبوؤهم المراكز القيادية في الجيش.

 

فما هو الوزن الحقيقي للمتدينين الصهاينة في الجيش وهيئاته القيادية، وكيف تسنت لهم الهيمنة على المواقع القيادية، وما هي العوامل التي ساعدتهم، ولماذا كل هذا التخوف على الديمقراطية الإسرائيلية من نجاحات المتدينين الصهاينة هذه، وما تأثير ذلك على مستقبل الصراع بين العرب وإسرائيل؟

 

دور يشيفوت ههسدير

"
التيار الديني الصهيوني هو التيار الذي اعتبرت مرجعياته الروحية الخدمة العسكرية ليست مجرد واجب تقتضيه المواطنة، بل فريضة دينية يتوجب القيام بها على أكمل وجه
"

ينقسم المتدينون في إسرائيل إلى تيارين أساسيين، التيار الديني الأرثوذكسي، وهو التيار الذي توصلت مرجعياته الروحية مع مؤسس الدولة ديفد بن غوريون إلى اتفاق يقضي بإعفاء المنتسبين إليه من طلاب المعاهد والمدارس الدينية من الخدمة العسكرية، والتفرغ لدراسة الدين، مع العلم بأن أتباع هذا التيار يشكلون نحو 18% من اليهود في إسرائيل.

 

والتيار الديني الصهيوني وهو التيار الذي اعتبر نفسه منذ البداية جزءا لا يتجزأ من الدولة، واعتبرت مرجعياته الروحية الخدمة العسكرية ليست مجرد واجب تقتضيه المواطنة، بل فريضة دينية يتوجب القيام بها على أكمل وجه، ويشكل أتباع هذا التيار من 7-10% فقط من عدد اليهود، وذراعهم السياسي حزب المفدال الديني، وينتمي معظم المستوطنين إلى هذه الشريحة.

 

وحتى أوائل الثمانينيات من القرن الماضي ظلت نسبة المتدينين الصهاينة في الهيئات القيادية في الجيش أقل من النسبة التي يمثلونها من حيث تعداد السكان، وظل القادمون من القرى التعاونية "الكيبوتسات" التي تمثل قلاع العلمانية الإسرائيلية ينفردون بتبوؤ المواقع القيادية في الجيش، لدرجة أن الانتماء لـ"الكيبوتس" كان رديفاً للانتساب للوحدات المختارة في الجيش، مع أنه بمثل هذا الانتساب تفتح الطريق أمام تبوؤ المواقع القيادية في الجيش والدولة مستقبلاً.

 

لكن منذ ذلك الوقت حدث تغير دراماتيكي متلاحق ولافت للنظر، فقد قلت نسبة خريجي "الكيبوتسات" الذين يلتحقون بالوحدات المختارة بسبب تحلل الكثير من هؤلاء من الإيمان بواجب التضحية من أجل الدولة.

 

وفي المقابل حدثت عملية عكسية تماماً، حيث كانت توجيهات المرجعيات الروحية للتيار الديني الصهيوني لأتباعها بأن عليهم أن يتوجهوا تحديداً للانخراط في الوحدات المختارة والسرايا النخبوية في الجيش، من أجل قيادة الجيش وبالتالي التحكم في المشروع الصهيوني.

 

ولعل الذي سهل على الصهاينة المتدينين تحقيق هدفهم هو وجود ما يعرف بالعبرية بـ"يشيفوت ههسدير"، وهي معاهد دينية عسكرية يمولها الجيش و ينضم إليها حصراً أتباع التيار الديني الصهيوني بعد تخرجهم من المدرسة الثانوية، يقضي هؤلاء ثمانية عشر شهراً في هذه المعاهد، يمارسون خلالها تعليمهم الديني وفي نفس الوقت يؤدون الخدمة العسكرية، مع العلم بأنه بعد تخرجهم منها يقضون ثلاثين شهراً إضافية في الخدمة العسكرية.

 

"
لا يقتصر اندفاع المتدينين نحو المواقع القيادية في الجيش، بل إن التسريبات الصحفية تؤكد أن المتدينين أصبحوا يمثلون ثقلاً متصاعداً داخل جهاز المخابرات الداخلية الشاباك
"

يبلغ عدد هذه المدارس اثنين وأربعين مدرسة يديرها الحاخامات، ويتم التشديد فيها على أن "الخدمة العسكرية والروح القتالية هي مهمة جماعية يفرضها الدين بهدف قيادة المشروع الصهيوني"، من هنا كان كل طالب في هذه المدارس لا ينظر للخدمة العسكرية على أنه يؤدي خدمة إجبارية تنتهي بعد ثلاث سنوات، بل على أنها بوابة واسعة لممارسة التأثير على مستقبل الدولة وعلى عملية صنع القرار فيها. 

 

وعلى الرغم من أن "يشيفوت ههسدير" يتم تمويلها من قبل الجيش، ومدراؤها من الحاخامات يتلقون رواتبهم من خزانة الدولة، فإن نظام التعليم فيها مستقل تماماً وتتحكم فيه المرجعيات الروحية للتيار الديني الصهيوني دون أي قدر من الرقابة على مضامين مناهج التعليم فيه.

 

العمود الفقري للجيش

على الرغم من أن الخدمة العسكرية في إٍسرائيل إلزامية، فإن الانتساب للوحدات المختلفة داخل الجيش هو أمر اختياري وطوعي، وبفعل التثقيف والتعبئة التي يتعرضون لها داخل "يشيفوت ههسدير"، فإن أتباع التيار الصهيوني الديني يتجهون للانتساب للوحدات المختارة، وسرايا النخبة في الجيش.

 

وشيئا فشيئاً أصبح معظم قادة الوحدات المقاتلة هم من المتدينين "معاريف 24/3/2005″، ومعظم القادة والمنتسبين للوحدات المختارة مثل سرية وحدة الأركان، و "إيجوز" و "دوفيديفان" و"يسام"، هم أيضا من المتدينين.

 

وليس هذا فحسب إذ إن المتدينين  يحتكرون الخدمة في ما يعرف بـ"سرايا النخبة" التابعة لألوية المشاة، فمثلاً 60% من القادة والمنتسبين لسرية النخبة في لواء المشاة "جفعاتي" هم من المتدينين.

 

ولقد تغلغل المتدينون الصهاينة في المواقع القيادية للجيش مما دفع الجنرال يهودا دونيدينان الذي كان مسؤولاً عن قسم الشبيبة في وزارة الدفاع للقول إن أتباع التيار الديني الصهيوني أصبحوا يشكلون العمود الفقري للجيش.

 

ولا يقتصر اندفاع المتدينين نحو المواقع القيادية على الجيش، بل أيضاً يمتد إلى الأجهزة الإستخبارية، فعلى الرغم من أنه لا تعلن هوية الذين يخدمون في الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية، فإن التسريبات الصحفية تؤكد أن المتدينين أصبحوا يمثلون ثقلاً متصاعداً داخل جهاز المخابرات الداخلية الشاباك، وهو أكثر الأجهزة الاستخبارية تأثيراً على دوائر صنع القرار في الدولة، وما ينطبق على الجيش والمخابرات ينطبق على الشرطة وحرس الحدود.

 

تكريس النزعات الانفصالية

"
الحاخامات يحرصون على تذكير طلابهم الذين يعدونهم لقيادة الجيش والدولة بأنه لا مصدر أكثر قدسية من تعليمات التوراة والكتب المقدسة اليهودية 
"

في النظم الديمقراطية ينحصر دور المستوى العسكري فقط في تنفيذ السياسات التي تقررها الحكومات التي تفرزها الانتخابات، ويعد عدم التزام العسكر بتعليمات الحكومة تقويضاً عملياً لتلك الديمقراطية، هنا يكمن الخطر في تبوؤ المتدينين للمواقع القيادية في الجيش، فالقائد والجندي المتدين في الجيش الإسرائيلي عندما يفرض عليه الاختيار بين تنفيذ الأوامر العسكرية الصادرة عن قيادته وحكومته المنتخبة، وتعليمات مرجعياته الروحية، فإنه لا يتردد في تلبية تعليمات المرجعيات الدينية.

 

ولعل المثال الأكثر وضوحاً على ذلك هو ما قاله الجنرال يسرائيل فايس كبير حاخامات الجيش الذي قال مؤخراً إنه يفضل خلع بزته العسكرية على تنفيذ أي أمر يصدر عن قيادة الجيش ويتعارض مع تعليمات الحاخام إبراهام شابيرا، ثاني أهم مرجعية روحية للتيار الديني الصهيوني.

 

المفارقة أن مدراء "يشيفوت ههسدير" من الحاخامات الذين يحرصون على تذكير طلابهم الذين يعدونهم لقيادة الجيش والدولة بأنه لا مصدر أكثر قدسية من تعليمات التوراة والكتب المقدسة اليهودية، وأن أي تعليمات تصدرها قيادة الدولة يجب أن تفقد شرعيتها في حال تعارضت مع تعاليم الدين التي تحتكر المرجعيات الروحية للتيار الديني الصهيوني الحق في تفسيرها.

 

فمثلاً جميع المرجعيات الروحية للصهيونية الدينية دعت أتباعها من القادة والجنود إلى رفض تعليمات قيادة الجيش بالمشاركة في تنفيذ خطة فك الارتباط، ليس هذا فقط بل إن حاخاماً بحجم إبراهام شابيرا دعا أتباعه للانشقاق عن الجيش في حال تم تنفيذ خطة فك الارتباط.

 

ولقد كانت هناك حوادث تؤكد صحة ما حذر منه ياتوم، فقبل شهرين تبين أن الذين منعوا الجيش من تنفيذ أوامر الحكومة بإخلاء بعض البؤر الاستيطانية في محيط نابلس هم جنود من المتدينين بناءً على تعليمات مرجعياتهم الدينية، وبعض حاخامات الصهيونية الدينية يدعون أتباعهم إلى إطلاق النار على أفراد الأمن الذين يشاركون في إخلاء المستوطنات، كما أفتى بذلك الحاخام حاييم دروكمان الذي هو نفسه مدير لإحدى "يشيفوت ههسدير" في منطقة الخليل، ولا يختلف اثنان في إسرائيل على أن الجندي المتدين الذي ينضم للمعاهد الدينية يرى في حاخام المعهد قائده الأعلى وليس قائده العسكري.

 

هذا بالضبط ما جعل الجنرال ياتوم يحذر من مغبة حدوث انقلاب عسكري في إسرائيل بسبب اكتساح المتدينين للمواقع القيادية في الجيش، ويضيف ياتوم، قبل عامين كنت أعتقد أن هذا السيناريو وهم وخيال، لكنه أصبح واقعيًا في ضوء الأحداث الأخيرة  التي نشهد فيها ظاهرة العصيان في الجيش، والتشكيك في شرعية الحكومة والبرلمان من قبل حاخامات الصهيونية الدينية.

 

ويرى المفكر الصهيوني بامبي شيلغ أن الغرور أعمى أتباع التيار الديني الصهيوني بحيث لم يعودوا يستسيغون أن يتم حسم القرارات المصيرية للدولة خارج عباءة رجال الدين، ويصل شيلغ إلى القول أن هذا الغرور قد أدى إلى ظهور النزعات الانفصالية لهذا التيار عن الدولة ومؤسساتها، ويقدم الكاتب يارون لندن نفس النتيجة محذراً من تفاقم النزعات الانفصالية لدى التيار الصهيوني الديني.

 

مستقبل الصراع

"
الجيش الإسرائيلي الذي سيكون تحت قيادة المتدينين غير الجيش الحالي، على الرغم من أن معظم القادة الحاليين ذوو نزعات عنصرية متطرفة، أما تحت قيادة المتدينين فسيدفع الجيش الحكومة إلى سياسات أكثر تصادماً مع العالم العربي
"

لا شك أن المعطيات السابقة يجب أن تشعل الأضواء الحمراء لدى دوائر صنع القرار في العالم العربي، إن كان ثمة من يلقي بالاً لما يحدث في إسرائيل، فتبوؤ المتدينين المراكز القيادية في الجيش سيؤثر مستقبلاً بشكل كبير على طابع العلاقات بين إسرائيل والعالم العربي.

 

والجيش الذي سيكون تحت قيادة المتدينين هو غير الجيش الحالي، على الرغم من أن معظم القادة الحاليين ذوو نزعات عنصرية متطرفة، وتحت قيادة المتدينين سيدفع الجيش الحكومة إلى سياسات أكثر تصادماً مع العالم العربي، فضلاً عن أنه سيتجاهل مظاهر الغزل التي تبديها أنظمة الحكم العربية تجاه الدولة العبرية، وذلك بفعل تأثرهم الشديد بالأفكار الخلاصية التي توغل في نفيها للآخر العربي وازدرائه.

 

كما أن القادة المتدينين سيخلطون بين متطلبات السياسة وتعليمات الحاخامات، فهاهو الحاخام مردخاي إلياهو أكبر مرجعية روحية للتيار الديني الصهيوني، والذي يحرص كل القادة المتدينين على تقبيل يديه و الحصول على " تبريكاته " يصدر فتوى مؤخراً تبيح إبادة الفلسطينيين عملاً بالفريضة التوراتية التي تقول "اذكر عدوك وأبده"، معاريف 28-3-2005.

 

وقصارى القول إن ظاهرة تبوؤ المتدينين المراكز القيادية في الجيش تحمل في طياتها بذور تفكك النظام السياسي الإسرائيلي وانقشاع قناعه الديمقراطي الزائف، وإعادة إنتاج هذه النظام في ثوب انعزالي شمولي عسكري خلاصي.
ــــــــــــــ
كاتب فلسطيني

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.