الصهيونية والنازية والإجراءات المنفصلة عن القيمة

الصهيونية والنازية والإجراءات المنفصلة عن القيمة
 
 
عرفت الحداثة بأنها مقدرة المرء على أن يغير قيمه بعد إشعار قصير، وهذا يعود إلى الإيمان بأن العالم في حالة صيرورة دائمة، وتغير مستمر ولا غاية لهما، فلا ثبات لأي شيء، لا الواقع، ولا القيم، ولا الطبيعة البشرية ذاتها. إنه عالم لا تحكمه سوى إجراءات منفصلة عن القيمة، وهذا يؤدي بدوره إلى أن ما يسود العالم هو النسبية المطلقة.

 

ولكن حينما تسود النسبية ويتحرر العالم من القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية، تظهر قيمة واحدة قادرة على حسم الأمور، وهى القوة! ولذا فنحن نسمي الحداثة المنفصلة عن القيمة value free modernity بأنها الحداثة الداروينية.

 

ونحن نذهب إلى أن كلا من الصهيونية والنازية هما تعبير عن هذه الحداثة. فالصهيونية حركة استعمارية استيطانية إحلالية استخدمت مجموعة من الأساطير لتجنيد الجماهير اليهودية.

 

وتتسم هذه الأساطير بأنها متخلفة ومنفصلة عن الواقع الإنساني والتاريخي بأي معايير إنسانية (هيومانية) أو دينية، ومع هذا لاقت من التعاطف في العالم الغربي ما لم تلقه حركة سياسية أخرى.

 

وهذا يعود –دون شك– لأسباب عديدة من بينها ومن أهمها حاجة الغرب لقاعدة عسكرية ضخمة تخدم مصالحه، والكيان الاستيطاني يقوم بهذه المهمة على أكمل وجه.

 

ولكن من الأسباب الأخرى أن الأيديولوجية الصهيونية لا تتعارض مع قيم حضارة الإجراءات المنفصلة عن القيمة ومن الغاية النهائية، حضارة الصيرورة الدائمة والنسبية المطلقة.

 

والصهيونية، أيديولوجية الإجراءات بالدرجة الأولى، بدأت نشاطها بأن أنكرت التاريخ العربي في فلسطين، أي العنصر الأساسي الثابت من مكونات الواقع الفلسطيني، فاكتسحت الصيرورة فلسطين وأصبحت مجرد أرض.

 

ولكن رغم هذه النسبية المطلقة فإننا نجد أنها موجهة نحو الفلسطينيين وحسب، فإحساس الفلسطيني نحو فلسطين وطنه، أمر يجب عدم الاكتراث به.

 

أما إحساس اليهودي نحو نفس المكان، حتى ولو كان هذا اليهودي مواطنا في الولايات المتحدة، فهو أمر يجب احترامه لأنه يخدم المصالح الغربية وهو جوهر المشروع الصهيوني، أي أن النسبية المطلقة تمتد لتبتلع العرب ولكنها لا تشمل الصهاينة بأي حال، فإلى جانب النسبية المطلقة توجد أيضا العنصرية المطلقة النابعة من الرؤية الداروينية!

 

"
تتسم الأساطير الصهيونية بأنها متخلفة ومنفصلة عن الواقع الإنساني والتاريخي بأي معايير إنسانية (هيومانية) أو دينية، ومع هذا لاقت من التعاطف في العالم الغربي ما لم تلقه حركة سياسية أخرى
"

وكمتخصص في الصهيونية سنحت لي فرصة قراءة العديد من المصادر الصهيونية الأولية، وكلها تدل على أن الزعماء الصهاينة كانوا على علم بأن الأسطورة الصهيونية أكذوبة.

 

فهرتزل في يومياته يتحدث عن الشعار الصهيوني "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض"، ولكنه مع هذا يشير مرات عدة إلى الفلسطينيين الذين قابلهم.

 

وفى المؤتمر الصهيوني الأول جرى زعيم صهيوني آخر، ماكس نوردو، نحو هرتزل ووجه له اللوم لأنه لم يخبره أن فلسطين آهلة بالسكان، فهدأ هرتزل من روعه وأخبره أن الأمور ستسوى.

 

وكان حاييم وايزمان – أول رئيس دولة في الكيان الصهيوني- يعلم بوجود العرب وكان دائم الحديث عن ضرورة التآخي معهم.

 

وآحاد هعام –أهم فلاسفة الصهيونية– اكتشف هو الآخر أن الصهيونية أكذوبة حينما ذهب إلى فلسطين ووجد الصهاينة يقتلون العرب.

 

كانت المسافة بين الأسطورة أو الأكذوبة الصهيونية والواقع في فلسطين واسعة لأقصى حد، ولذا كان على الصهاينة أن يملؤوا هذا الفراغ  وأن يحسموا هذا التناقض.

 

وقد كتب لود فيج جومبلوفيتش، عالم الاجتماع النمساوي اليهودي، إلى هرتزل يسأله مستنكرا، هل تريد أن تؤسس دولة بدون أن تسفك دماء، بدون عنف أو مكر؟ ويوميات هرتزل زاخرة بتأملاته في الإجراءات المتحررة من القيمة اللازمة للتخلص من الفلسطينيين.

 

ونوردو بعد أن طمأنه هرتزل عرف هو الآخر أن ثمة إجراءات لابد من اتخاذها، فاقترح تكوين جيش يهودي قوامه 100 ألف يهودي لغزو أرض الميعاد.

 

ووايزمان أيضا وضع المخططات الدقيقة، أي اتخذ "الإجراءات اللازمة" لطرد العرب و"تنظيف" فلسطين من سكانها، على حد قوله.

 

هذا إذن هو الجزء المكمل للنسبية المطلقة أن يقوم أحد الأطراف باستخدام الإجراءات المنفصلة عن القيمة بحيث يخلق "أمرا واقعا أو حقائق جديدة" -على حد قول موشيه ديان- أي أن ما يحسم الأمور في نهاية الأمر هو العنف والقوة الصريحة، وفى هذا عودة للأصول الوثنية لأخلاق الصيرورة، وعودة لمكيافيلي الذي نطالع وجهه الكئيب في كل الكتابات الصهيونية. 

 

وحينما كنت في الولايات المتحدة كنت أخبر مستمعي من اليهود وغير اليهود، أن المنطق النسبي الذي ينكر القيم والطبيعة البشرية والتاريخ، ولا يعلي إلا من شأن الصيرورة والإجراءات المنفصلة عن القيمة، يؤدي بالضرورة إلى معسكرات الاعتقال وإلى أفران الغاز.

 

فالدولة النازية قد طرحت رؤية أسطورية للتاريخ الألماني، وهذه الرؤية شبيهة من بعض النواحي بالأسطورة الصهيونية.

 

ولكن لا يحق لنا أن نتساءل عن مدى صدق أو كذب هذه الأسطورة ولا عن مدى تكلفتها الإنسانية.

 

فأخلاق الصيرورة البراغماتية لا تحكم على شيء خارج صيرورته، وإنما تنطلق من الأمر الواقع، وانطلاقا من هذا الأمر الواقع المتجرد من كل الأوهام والأعباء الأخلاقية بدأت النازية في تشييد دولتها القوية، وبدأت أفران الغاز.

 

ومن المعروف أن أفران الغاز هذه لم تشيد في بداية الأمر من أجل اليهود وإنما من أجل العجزة وضعاف العقول وغيرهم من الناس عديمي الجدوى وعديمي الفائدة الذين كان يطلق عليهم اصطلاح "أفواه تأكل ولا تنتج، useless eaters".

 

ولا يمكن الاعتراض من منظور مادي إجرائي على أفران الغاز فهي لن تقضي على شيء نافع من منظور مادي، وإنما ستقضي على شيء لا نفع من ورائه بعد اتخاذ الإجراءات اللازمة، أي دراسات الجدوى العلمية المادية المحايدة المنفصلة عن القيمة value free.

 

ثم استخدمت أفران الغاز بعد ذلك للقضاء على الجنود الألمان الذين كانوا يسقطون جرحى في المعارك، لأن عملية تمريضهم وإطعامهم كانت تمثل عبئا على الاقتصاد الوطني.

 

ثم طبق هذا المنطق العلمي المادي بعد ذلك على اليهود باعتبارهم أقلية عديمة الفائدة، إذ إن يهود شرقي أوروبا الذين تدفقوا على ألمانيا كانوا يمثلون بالفعل عبئا على الاقتصاد الوطني الألماني، فأعداد كبيرة منهم كانت لا تمتلك المهارات التي يتطلبها الاقتصاد الألماني، كما أنهم كانت بينهم نسبة كبيرة من المشتغلين بالمهن الهامشية مثل الدعارة وتهريب المخدرات.

 

"
حاول النظام النازي التخلص من يهود شرقي أوروبا، خاصة البولنديين بإرسالهم إلى بلادهم، لكنها أوصدت أبوابها دونهم مثلما فعلت الولايات المتحدة من قبل ومن بعد
"

 

ولكن هذا كله لا يهم، فمربط الفرس هو رؤية ذهبت إلى أن اليهود لا يصلحون لأن يكونوا جزءا من المشروع النازي لإعادة بناء ألمانيا، وقد ساندت هذه الرؤية ودعمتها مجموعة من البحوث العلمية التي أنجزها جمع هائل من العلماء النازيين "العباقرة".

 

وقد حاول النظام النازي جاهدا، في بداية الأمر التخلص من يهود شرقي أوروبا، خاصة بولندا، بإرسالهم إلى بلادهم، لكنها أوصدت أبوابها دونهم، مثلما فعلت الولايات المتحدة من قبل ومن بعد.

 

بعد دراسة الجدوى وبعد محاولة التخلص منهم بالوسائل العادية أصبح من الضروري اتخاذ إجراءات أخرى ضد اليهود وغيرهم من العناصر التي لا تتسم بالكفاءة مثل الغجر وأبطال المقاومة في فرنسا، (لم يكن اليهود هم الضحية الوحيدة أو الرئيسية للكفاءة النازية، ولكنني كنت أركز عليهم وحدهم لأن جمهوري هناك كان يتصور ذلك، ولم أكن أريد الدخول في مناقشة جانبية).

 

كانت معسكرات الاعتقال النازية قمة "أو هوة" من قمم انتصار الكفاءة والإجراءات المنفصلين عن القيمة، فالمعسكرات كانت تقع على مقربة من بعض المدن وليس داخلها، ربما لتحاشي تعطيل المرور وحتى يتم نقل المعتقلين بسهولة ويسر.

 

ولعل العناصر الأمنية لعبت هي الأخرى دورها، وحينما كان يصل المعتقلون هناك فالإجراءات كانت في غاية الدقة والرشد، إذ كان يقسم اليهود إلى أطفال وعجائز ونساء وغير قادرين على العمل، ثم رجال ونساء قادرين على العمل.

 

وكان كل معتقل يعطى رقما حتى يسهل تصنيفه والاستفادة منه على أكمل وجه، وكان المعتقلون يقفون صفوفا في الصباح حتى تتم عملية فرزهم لتقرير الصالح من الطالح والنافع من عديم الجدوى، بل وكان يفرض عليهم القيام ببعض التمرينات الرياضية حتى يحتفظوا بمستوى عال من اللياقة البدنية.

 

وكان مدير المعسكر يحاول أن يعظم الربح بكل الوسائل الممكنة مثل أعمال السخرة بالنسبة للقادرين على العمل، فكانت مجالس إدارة الشركات الألمانية المستفيدة من العمالة الرخيصة تعقد بعض اجتماعاتها في داخل المعسكرات، كما أن التعاون بين شركة فاربن، أكبر الشركات الألمانية، وإدارة المعسكرات كان وثيقا.

 

أما العناصر عديمة الفائدة فكانت تتم تصفيتها، ولكن ما تبقى منها، أي الجسد الإنساني، فإن توظيفه يتم بطرق مختلفة: حشو الأسنان الذهبي يرسل للخزانة الألمانية ليساعد على ازدهار الاقتصاد الوطني، أما الشعر البشرى فيصنع منه فرش أحذية من أجود الأصناف، ويقال إن الشحم البشرى كان يستخدم في صناعة بعض أنواع الصابون.

 

وكان الأمر كله يتم في هدوء وموضوعية شديدة، فمدير المعتقل كان يجلس في غرفته مع أسرته يستمع إلى موسيقى فاجنر ويتمتع بمنتجات الحضارة، لكن دون أن يشعر بأي أعباء أخلاقية، فموسيقى فاجنر يجب ألا تفضي به إلى التسامي والحكم على ما حوله وإنما هي جزء من الصيرورة وحسب، هي متعه وتوتر وتجربة عميقة، تماما مثل دراسة الأطباق الطائرة أو مشاهدة فيلم من أفلام الخيال العلمي.

 

كل شيء كان يتم في جو علمي معملي رهيب، ويقال على سبيل المثال، إنه بينما كانت صفوف الضحايا مصطفة مرة في طريقها لتلاقي حتفها، ضرب أحد الجنود الألمان واحدا منهم، فعنفه رئيسه لأن الإجراءات يجب أن تتم حسب القواعد المرعية ولا يوجد فيها مجال للعاطفة، فالعاطفة شيء خطر للغاية خارج عن الصيرورة.

 

"
إن ما حدث في الجحيم النازي لا يختلف كثيرا عن الفردوس الصهيوني الذي لا يستمد شرعيته من أي قيم أخلاقية وإنما من صيرورته التي هي سياسة الأمر الواقع وفوهة المدفع
"

وماذا عن قتل الأطفال؟ أليس هذا أيضا جزءا من الصيرورة، وقام جهاز الدولة، ذات المصلحة العليا، باتخاذ الإجراءات المنفصلة عن القيمة؟ كان مستمعي حينما نصل إلى هذه النقطة يتحدثون عن قداسة النفس البشرية أي "النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق"، أو عن الحق المطلق للإنسان في أن يحيا حياته وهنا كنت أبتسم ابتسامة علمية باردة وأخبرهم أن الحديث عن المطلقات يتعارض مع الإيمان بالصيرورة والإجراءات المنفصلة عن القيمة، ويتنافى مع النسبية المطلقة، وأن قتل الأطفال في ألمانيا النازية لم يخل بتاتا بأي من القواعد الإجرائية المعروفة، وأننا لا يحق لنا، نحن المستنيرين النسبيين، أن نحكم على الصيرورة النازية بمعايير أخلاقية تقع خارج نطاقها.

 

وأن ما حدث هناك في الجحيم النازي لا يختلف كثيرا عن الفردوس الصهيوني الذي لا يستمد شرعيته من أي قيم أخلاقية وإنما من صيرورته وحسب، أي من سياسة الأمر الواقع وفوهة المدفع.

 

كنت أذكرهم بأنني حينما يطلب مني كعربي أن أعترف بإسرائيل وأطبع معها، فإنني لا يطلب مني ذلك باسم الأخلاق المطلقة أو الحقوق الإنسانية، وإنما باسم بعض المعايير الحديثة مثل موازين القوى القائمة أو ضرورة التحلي بالمرونة والواقعية والقيم الوثنية الأخرى التي تخبئ الحد الأقصى من العنف.

 

إن الحضارة النازية هي الحضارة العلمانية الوحيدة الحق لأنها نزعت القداسة عن كل شيء، وحكمت على الواقع بمقاييس مادية متحررة عن القيمة، ولم يستثن أحد من المقصلة العلمية الإجرائية الباردة،  لا العجائز ولا الأطفال ولا حتى الجنود الجرحى.

 

ويالها من حيادية علمية تستحق الإعجاب والتقدير، تماما مثل إعجاب الغرب بالدولة الصهيونية التي تستند صيرورتها إلى مقصلة علمية كفء صنعت في الولايات المتحدة! والله أعلم.

ـــــــــــــــ

كاتب مصري

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.