التهدئة الفلسطينية.. إلى أين ومتى؟

التهدئة الفلسطينية .. إلى أين و متى؟

إبراهيم أبو الهيجاء

– اجتماع مصالح الأطراف المتناقضة
– قمة شرم الشيخ.. هل من جديد؟
– التقييم السياسي والميداني للتهدئة
– حوار القاهرة رهن مسألتين

تعبر التهدئة الفلسطينية بشكلها الحالي عن هدوء هش لعبت الظروف لا غيرها في إنجازه، وتأكد ذلك في اجتماع مصالح الأطراف جميعا بالحاجة إلى إعلانه والتمسك به حتى حين.

اجتماع مصالح الأطراف المتناقضة
فشارون تقتضي مصلحته أن ينفذ الصفقة التي أبرمها مع الأميركان، والتي بمقتضاها ينسحب من غزة وشمال الضفة الغربية مقابل التوسع في الضفة وضمان رفض أميركي لعدم العودة إلى حدود 1967، أو التجاوب مع أي شكل من أشكال حقوق العودة.

أما المصلحة الإسرائيلية الرسمية فتكمن في الحاجة إلى امتصاص غضب المتدينين والمستوطنين الذين لم يكونوا أكثر غضبا من شارون مثلما هم الآن، بسبب خططه بإخراجهم من غزة وإن كانوا سيذهبون إلى الضفة.

ولكن شارون الذي يدرك أن الهدوء الفلسطيني لا يمكنه أن يتأتى إلا بعد تقديم أثمان إسرائيلية، فإنه للمرة الأولى منذ انتفاضة الأقصى كان معنيا بزيادة حصة هذه الأثمان عبر إخلاء العديد من الحواجز ووقف معظم الاعتقالات والاغتيالات وتقديم بعض التسهيلات، واستعداده العلني لبحث إعادة الانتشار من بعض مناطق الضفة الغربية، والبحث في إخراج بعض المعتقلين ممن ساهموا وشاركوا في قتل يهود.

"
انتهاء عهد عرفات إشكالية وفرصة في آن واحد لحركة فتح وبالتالي للسلطة الفلسطينية كي تعيد ترتيب أوراقها وضمان بقائها عبر غض النظر عن مطالبها الملحة من بناء للجدار وتوسيع المستوطنات مقابل قبولها كطرف فاعل ومعترف به
"

ورغم أن ذلك يعد تطورا في سياسة الفتات الإسرائيلية أو ما تطلق عليه "بوادر حسن النية"، فإن الأهم أن إسرائيل نفذت هذه القضايا بدون شروطها القديمة التي كانت تطلب فيها من السلطة محاربة المقاومة الفلسطينية ومصادرة سلاحها. ثم جاء موت عرفات أو إنهاء عهده وصعود عباس وإجراء الانتخابات الرئاسية كفرصة لإسرائيل لتحدثنا وتحاول إقناعنا عن تغير جدي في السلطة الفلسطينية يدفعها إلى تكتيكات جديدة.

وكان بالمقابل انتهاء عهد عرفات إشكالية وفرصة في آن واحد لحركة فتح وبالتالي للسلطة الفلسطينية، كي تعيد ترتيب أوراقها وضمان بقائها من خلال غض النظر عن مطالبها الملحة من بناء للجدار وتوسيع مستوطنات الضفة الغربية مقابل قبولها كطرف فاعل ومعترف به في الساحة الدولية. ولعل توريث محمود عباس كرسي ياسر عرفات رغم الخلافات المعروفة بينهما، دليل على أن حركة فتح غلبت اعتبارات البقاء والذات على الإجابات الوطنية العاجلة.

ولأن حركة فتح تدرك أن المراهنة على إسرائيل مخاطرة كبيرة والدخول في مواجهة مع المقاومة الفلسطينية قد يؤدي إلى خسارتها في ظل إشكالية الارتهان إلى الوعود الإسرائيلية، فقد آثرت حوار الاستيعاب مع حركات المقاومة وتحديدا الإسلامية. وزاد في تعزيز هذه القناعة حاجة أبو مازن للاستقواء من هذا الحوار بسبب ضعف شرعيته الانتخابية والتنظيمية، ولهذا قدم للحركات المقاومة الإسلامية الكثير من الوعود على صعيد الشراكة الفلسطينية بالتقدم خطوة أكبر للتنسيق معها ومشاورتها والتعهد بعدم المس بسلاحها وإنجاز حياة فلسطينية ديمقراطية تقوم على الشفافية وسيادة القانون.

ثم التقى كل ذلك مع مصلحة المقاومة الفلسطينية ذاتها التي تنظر إلى ذاتها وحاجتها إلى وقت لإعادة تنظيم صفوفها، ونظرتها إلى شعبها المنهك وحاجته للراحة قليلا، مع تطلعها بحذر إلى التطورات الإقليمية والدولية التي باتت تتهم مقاومتها بالإرهاب وما عناه ذلك من تضييق مالي وما قد يعنيه لاحقا من حصار سياسي بسبب الضغوط المتزايدة على لبنان وسوريا وإيران التي بقيت منافذ التنفس الوحيدة في الخارج الفلسطيني. كل هذه التطورات خلقت مقاربات فلسطينية–إسرائيلية مؤقتة بالحفاظ على الحد الأدنى من الهدوء.

قمة شرم الشيخ.. هل من جديد؟
ثم أتت قمة شرم الشيخ التي تميزت بغياب الحضور الأميركي أولا، وما يعنيه ذلك من إزالة لأي غطاء دولي عنها حتى لو كان متحيزا، واقتصار بحثها على الجوانب الأمنية ثانيا، وما يعنيه ذلك من عودة إلى المربع الأول من التسوية حيث أمن الإسرائيليين وسلامتهم قبل الحقوق. والاهم أنها لم تكن متميزة عما سبقها من حيث بقاؤها مقتصرة على التقاط الصور والخطابات العمومية. ولكن الأخطر والجدي كان تقديم تنازلات عربية من دول الجوار عبر سماحها بعودة سفيريها المصري والأردني دون تقديم أثمان إسرائيلية جدية.

وحتى اللجان المشكلة لبحث قضايا الانسحابات والمعتقلين والمطاردين بقيت دون فاعلية، لدرجة أن مدينة هادئة مثل أريحا عجزت هذه اللجان عن الاتفاق حول الانسحاب من حاجز مقام حولها، فما بالكم بباقي المدن الأكثر استعصاء وقربا من حدود ما يسمى "الخط الأخضر"؟

أما الإفراجات فلم تكن هي الأخرى بأفضل مما سبقها من حيث النوعية، وبقيت في عمومها إفراجات شكلية.

وعليه لا يمكن القول إن قمة شرم الشيخ أسهمت في التهدئة بقدر ما عززت القناعة بهشاشتها، ورغم تحسن الخطاب الفلسطيني الرسمي عن خطاب العقبة، فإن إشكاليته كانت بالإعلان عن إنهاء الانتفاضة دون تشاور جدي مع حركات المقاومة التي أعطت أبو مازن فرصة لاختبار النوايا الإسرائيلية وليس قرارا إستراتيجيا بإنهاء ذاتها قبل تحقيق أهدافها.

وفي هذا الإطار يمكن القول إن الخطورة بمكان أن تتحول خطة الانسحاب الإسرائيلية من الخطوة الأحادية إلى الصيغة الإلزامية التي تستوجب من الفلسطينيين أن يقدموا لها أثمانا، رغم أنها بالأصل إنجاز يحسب للمقاومة وليس عليها.

التقييم السياسي والميداني للتهدئة

"
بقاء التهدئة دون أفق سياسي وثمن مبدئي يحاكي التطلعات الفلسطينية محكوم عليه بالفشل آجلا أم عاجلا، لأن التهدئة بلا ثمن هي أخت الاستسلام وإعلان انتهاء الانتفاضة كما أرادت قمة شرم الشيخ
"

على الأرض بقيت التهدئة تأخذ أشكالا من المد والجزر، نظرا لتسجيل خروقات إسرائيلية مستمرة على عدة صعد، فمثلا على الصعيد السياسي استمرت إسرائيل في بناء الجدار الفاصل بوتيرة متسارعة وبعمق 22 كلم داخل أراضي سلفيت وبيت لحم والأهم حول القدس، بل وأعلنت أنها ستنقل مستوطني غزة إلى الضفة، والأخطر إعلانها تطبيق قانون أملاك الغائبين في سابقة لم تحدث منذ عام 1967، وهذا يعني ببساطة مصادرة آلاف الدونمات لأهالي القدس وبيت لحم والخليل.

أما على الأرض فقد سجل أكثر من 200 اقتحام قتل فيه أكثر من 20 شهيدا نصفهم من الأطفال، وجرح فيها أكثر من 100 واعتقل أكثر من 200 من منازلهم، إضافة إلى آلاف العمال من داخل ما يسمى الخط الأخضر بحجة مخالفتهم قوانين عدم الدخول، وسجل خلالها أكثر من 100 حاجز مؤقت فضلا عن الحواجز الثابتة التي تزيد عن الستين.

بالمقابل لم تقم المقاومة برد على هذه الاختراقات إلا بالنزر اليسير وصل أوجها الحقيقي يوم 17/1/2005 إثر استشهاد الطفلة نوران دياب ديب بنت العاشرة في رفح أثناء خروجها من المدرسة. لكن بعد مؤتمر شرم الشيخ المنعقد في مصر لم تقع أي عملية مقاومة ذات أثر يذكر، إلى أن جاءت عملية تل أبيب التي أتت في سياق طبيعي من الرد على الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة التي لم تتوقف يوما ووصلت إلى أكثر من ألف خرق.

كل ذلك يؤكد أن التهدئة وإن بقي التمسك بها معلنا وموقفا رسميا قد يخدم موقف المقاومة في تسجيل الخروقات الإسرائيلية، إلا أن الإشكالية لدى الفلسطينيين لا تكمن فقط في انضباط إسرائيل عن الخروقات الميدانية، بل إن القياس هو في مدى الجدية الإسرائيلية في تلبية بعض المطالب الفلسطينية الملحة التي تتمثل أساسا في إزالة الجدار ووقف الاستيطان وبدء الانسحاب وإخراج مجمل المعتقلين الفلسطينيين.

أما بقاء التهدئة دون أفق سياسي وثمن مبدئي يحاكي التطلعات الفلسطينية، فإن التهدئة محكوم عليها بالفشل آجلا أم عاجلا، لأن التهدئة بلا ثمن هي أخت الاستسلام وإعلان انتهاء الانتفاضة كما أرادت قمة شرم الشيخ أن تقول.

حوار القاهرة رهن مسألتين
في سياق ذلك أتى حوار القاهرة الذي ستجتمع فيه كل الفصائل الفلسطينية منصف الشهر -كما هو مقرر- والذي سيكون من أهم أهدافه عربيا ودوليا تثبيت التهدئة وتمكين السلطة من فرصة سياسية، ولكن ستكون الإجابة على هذين السؤالين مرهونة بأمرين:

1- مدى الشراكة الفلسطينية–الفلسطينية التي من الممكن أن تذهب إليها السلطة وحركة فتح على وجه الخصوص، وضماناتها في الواقع السياسي.

2- الكيفية التي سيجري بها تقييم الالتزام الإسرائيلي بالتهدئة وبتقديم آفاق لها، وماهية الضمانات لذلك.

ورغم أن السلطة على الصعيد الداخلي قطعت شوطا جزئيا في تأكيد الحق الانتخابي في المجالس البلدية، فإن الاختبار الجدي سيكون في قابل الأيام من حيث إكمال هذه الانتخابات وتطوير القوانين الانتخابية والصلاحيات القضائية ومحاربة نفوذ الفساد ورفع سيف التصنيف السياسي في قضايا المعاملات والامتيارات الفردية والمؤسساتية، والأهم تحريم الاعتقال السياسي.

"
عندما تحرص القوى الفلسطينية على ضبط المصطلح بالقول إن ما يجري "تهدئة" لا هدنة تصحيحا للخطأ الذي وقعت فيه من قبل، فإن ذلك يؤكد أن التهدئة هي انضباط ذاتي لا هدنة ذات أبعاد تشارطية مع الاحتلال
"

أما مسألة التعاطي مع المقاومة وتقييم أو تفهم ردودها فيجب أن يكون في سياق وطني يرفض الضغوط الخارجية ويعطي حق الدفاع عن النفس للأفراد والقوى، والأهم شرعنة سلاح المقاومة وعدم خلطه بسلاح الفوضى.

الأمران الشراكة وكيفية التقييم مرتبطان ببعضهما، وحوار القاهرة على أهميته لن يتمكن -للأسف- من الإجابة على هذين السؤالين، وبدلا من تركيزه على جملة القضايا الفلسطينية سيكون جل هدفه فصلها وتجزئتها مركزا على ما هو مطلوب إسرائيليا وأميركيا والذي يقيس نجاح أو فشل الحوار بمقدرة المصريين والسلطة على إقناع باقي الفصائل بعدمية استمرار المقاومة.

باختصار المدخل الأمني هو المطلوب في القاهرة كما هو عنوان مؤتمر قمة شرم الشيخ السابقة ولندن اللاحقة.

وعندما تحرص القوى الفلسطينية على ضبط المصطلح بالقول إن ما يجري "تهدئة" وليس هدنة تصحيحا للخطأ الذي وقعت فيه من قبل، فإن ذلك يؤكد أن التهدئة هي انضباط ذاتي لا هدنة ذات أبعاد تشارطية مع الاحتلال.

ولكن يكون الخطأ أكبر أن تبقى التهدئة فعلا ذاتيا بلا سقف زمني، في ضوء أن الأفعال السياسية الإسرائيلية لا تتحدث عن تغيرات جوهرية فيها وإن تحدثت عن "فرص تاريخية" تحققت بصعود أبو مازن واختفاء عرفات، لأن ما يجري لا يشير إلا إلى توظيف إسرائيلي شاروني للعامل الفلسطيني في لعبته الداخلية المعقدة المتوترة من مسألة الانسحاب من غزة وشمال الضفة إن حدث.

فالتفكير الشاروني لا يعدو أن يكون محاولة لكسب الوقت ما أمكن وإدارة القليل من العلاقات العامة، بما يمكنه من إنجاز الجدار وتسمين مستوطناته في الضفة والقدس، والتفاوض بعدها بحكم الواقع الجديد، وعندها على إسرائيل أن تتنظر انتفاضة أصلب وأعنف مما مضى.
_________
كاتب فلسطيني

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.