في الاستهداف الأميركي لقناة الجزيرة

استشهاد مراسل الجزيرة طارق أيوب وجرح مصورها زهير العراقي بقصف الغزاة لمكتب الجزيرة في بغداد الثلاثاء 8/4/2003.



علي حسين باكير

– في أسباب الاستهداف الأميركي للجزيرة
– معالم الحرب الأميركية على الجزيرة

فرض الإعلام الأميركي نفسه على الدول العربية والإسلامية لعقود من الزمان على أنّه الإعلام الصادق المتميز والمنصف.

وساهم في تضخيم هذه الصورة ضحالة الإعلام الرسمي لهذه البلدان، وانخفاض وقلة استخدام الوسائل التقنية الحديثة وكذلك تنافس وسائل الإعلام العربية والإسلامية في إبراز الغرب وكافة وسائله الإعلامية وأدواته الثقافية بصورة وردية مشرقة وباهرة، والانكباب على تأسيس القنوات غير ذات المنفعة فكريا وثقافيا وسياسيا.

وقد ظلّ الوضع كذلك إلى حين ظهور الجزيرة عام 1996، فانقلب ما كان، وبدأ استهدافها يزداد منذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 والحرب الأميركية على أفغانستان والعراق.


"
قناة الجزيرة وموقعها على الإنترنت حققا سمعة طيبة لدى الإعلاميين والأكاديميين في الدول الإسكندنافية، فصارت القناة مصدرا موثوقا للمعلومات والأخبار، بعد أن كانت الدول الإسكندنافية تعتمد على وسائل الإعلام الغربية
"

أسباب الاستهداف الأميركي للجزيرة
1- التنافسية: أثبتت قناة الجزيرة للمرّة الأولى وبصورة غير متوقعة في الزمن المعاصر قدرتها، وبالتالي قدرة العربي على منافسة الإعلام الغربي والتفوق عليه، وهو ما يعتبر في الوعي الغربي أمرا غير مقبول على اعتبار أن العربي عندهم هو "كرش ومال ونساء وبترول وصحراء وجِمال".

ومن هذا المنطلق نستطيع أن نعرف لماذا العربي والمسلم ممنوع من التفوق، لأنهم يعتبرونه خطرا عليهم وعلى احتكارهم للساحة الدولية، ولا ينسحب هذا المفهوم على الإعلام فحسب، بل على الصناعة والتجارة والعلم وعلى كل شيء.

وقد شعرت وسائل الإعلام الأميركية أنها فقدت قدرتها التنافسية في المنطقة أو المجال الذي تغطّيه قناة الجزيرة، وبالتالي فقد فقدت القدرة على التأثير على تلك المنطقة من الناحية الإعلامية فكريا وقيميا ودعائيا، وهو ما يعدّ تراجعا وتأخرا لم يكن من المفترض أن يحصل وفق الخطّة الأميركية للسيطرة على المنطقة فكريا وثقافيا وعلميا وحضاريا.

بل إنّ العديد من القنوات العالمية أصبحت تعتمد على الجزيرة كمصدر موثوق للأخبار بعيدا عن الهيمنة الأميركية، إذ أكد رئيس تحرير صحيفة "ني تيد" النرويجية داق هيربيورنستود أن قناة الجزيرة وموقعها على الإنترنت حققا سمعة طيبة لدى الأكاديميين والإعلاميين في الدول الإسكندنافية، وأصبحت القناة مصدرا موثوقا للمعلومات والأخبار، بعد أن كانت الدول الإسكندنافية تعتمد على وسائل الإعلام الغربية.

وأضاف أن القناة لم تعد حكرا على العرب، ولم تعد إقليمية، بل تربعت على عرش الإعلام العالمي بجدارة، وهي لا تقف عند حدود، وأنها تحقق شعبية متزايدة ونجاحا يستحق الاحترام على الرغم من يفاعة سنها.


2- نقل وجهة النظر الأخرى (الرأي والرأي الآخر): وقد شكّل هذا التوجّه ضربة قاصمة للذين يعملون على التضليل الإعلامي الذي يعتبر من فنون الإعلام الأميركي خاصّة تجاه قضايا تمس أمنهم القومي كما يقولون أو أمن حلفائهم وعلى رأسهم إسرائيل.

فقد كانت وسائل الإعلام الأميركية تغطي الأحداث من منظورها الخاص ثمّ تأتي بوجهة نظر أخرى تكون نسخة عن وجهة نظرهم ولكنها عربية، إن أتت وجهة النظر الأخرى هذه!!

بمعنى أنهم يأتون بأزلامهم من المتأمركين والمتصهينين وهم كثر ليفسروا بهم صحّة ما يذهبون إليه من تغطية للأحداث.

لذلك فقد كانت خطوة الجزيرة بعرض وجهة النظر ووجهة النظر الأخرى ضربة قاصمة لإستراتيجية التضليل الغربية، وقد أتاحت للمشاهد الاستماع إلى وجهتين مختلفتين وبالتالي ترك الحكم على صحّة إحداهما للجمهور والمتابعين.

وهذا الأمر يعني تعزيز وعي المشاهد العربي في مرحلة تاريخية مهمّة جدا تقتضي طمس هذا الوعي وتغييبه وإشغاله بفضائيات العري والغناء فضلا عن قنوات "استقبل وودّع" التي لا تغني ولا تسمن.


"
معظم الشعب الأميركي لا يثق في مصداقية الإعلام الأميركي رغم ادعاء هذا الإعلام الحياد والإيجابية والتغطية المتوازنة للأحداث
"

3- تعرية التضليل الإعلامي الأميركي: استطاعت الجزيرة أن تكشف كثيرا من التناقضات فيما تبثه الوكالات والمحطات الغربية وتجبرها على التراجع، سواء في حرب أفغانستان وحرب العراق أو غيرهما من القضايا المهمّة والمصيرية.

والأمثلة كثيرة جدا، منها على سبيل المثال الادعاء بعدم وجود قتلى وأسرى أو سقوط طائرات في الأيام الأولى من الحرب على العراق حتى نشرت الصور في الجزيرة وأجبرت الناطقين الأميركيين والبريطانيين على الاعتراف.

ثم تحولت المعركة الإعلامية إلى الانتهاكات الأميركية لاتفاقية جنيف لأسرى الحرب بعد أن كانت إنكارا لوجودهم ابتداء، وانتقد كل من بوش وبلير والقادة العسكريين قناة الجزيرة بالاسم لنشرها صور الأسرى، وما زلت أذكر ما قاله الجنرال "كيميت" من القاعدة الإعلامية الأميركية والحرب على العراق في أوجها حيث كان يكذب ويصر على عدم وقوع ضحايا مدنيين عراقيين جرّاء القصف الأميركي. فقال له الصحفيون وماذا عن الصور التي نقلتها الجزيرة؟ فقال بكل بساطة Change The Channel ، يعني "غيّروا القناة" وعندها لن تروا أي صور!!


4- الموضوعية والشفافية والمصداقية: على الرغم من أنني أفهم أن الموضوعية في تعريفي هي الانحياز للحق، فإنّ الجزيرة قد استطاعت أن توازن بصورة احترافية ممتازة بين كونها قناة عربية تعرض القضايا العربية الشائكة التي قد تطغى العاطفة عليها وبين الحقائق التي تجري على الأرض بطريقة مهنيّة عالية غير مسبوقة، حتى لدى الإعلام الغربي ولاسيما الأميركي.

وقد أثار هذا غضب الأميركيين، فحسب دراسة أعدها كل من أندروكوت وروبرت قوث حول ثقة المواطن الأميركي في مصداقية الإعلام الغربي، ونشرت في دورية "الصحافة والسياسة" الصادرة عن جامعة هارفرد، وجدا أن المجتمع الأميركي قد انخفضت ثقته بالإعلام الغربي بصورة واضحة في السنوات الأخيرة.

إن غالبية الشعب الأميركي التي كانت تثق في مصداقية وسائل الإعلام الغربية قد تحولت إلى أقلية خلال السنوات العشر الماضية.

وفي دراسة إحصائية أعدتها مؤخراً في 13 يونيو 2005 مؤسسة غالوب المتخصصة في أبحاث الرأي العام والدراسات الإحصائية، ظهر أن 44% فقط من الشعب الأميركي يثقون في وسائل الإعلام الأميركية بوجه عام. وانخفضت النسبة بشكل حاد إلى 28% فقط فيما يتعلق بالثقة في الصحف وقنوات التلفزة الإخبارية.

ويعني ذلك أن معظم الشعب الأميركي لا يثق في مصداقية الإعلام الأميركي رغم ادعاء هذا الإعلام الحياد والإيجابية والتغطية المتوازنة للأحداث. وانعدام المصداقية هذا ليس سببه عدم الحياد فقط، وإنما عدم الالتزام بالمبادئ الأخلاقية أيضاً في التغطية الإعلامية.


"
الغضب الأميركي وصل مداه فلن يسمح بصورة ولا كلمة غير صورة وكلمة السيّد الأميركي، غير أن أميركا لم تجد أمامها من حل لهذه المعضلة سوى قصف الإعلام وقتل المراسلين
"

معالم الحرب الأميركية على الجزيرة
إن انزعاج الإدارة الأميركية من الجزيرة وأسلوبها الجديد الذي كان مصاحبا لانزعاج العديد من البلدان العربية الحليفة أيضا لم يتوقّف عند التنديد بها ومهاجمتها إعلاميا والمطالبة بإغلاقها، بل إن الأمر تعدى ذلك إلى استهدافها عسكريا واستهداف العاملين فيها.

ولذلك فإننا لا نشكّ أبدا في هذه الوثيقة البالغة السرية الصادرة عن الحكومة البريطانية التي تضمنت خطة اقترحها الرئيس الأميركي جورج بوش لقصف مقر قناة الجزيرة في قطر.

فالحقائق التي حصلت على الأرض وشريط الأحداث فيما يتعلق بالاستهداف الأميركي للقناة ومراسليها لا يترك مجالا للشك فيها.

ومن أبرز محطّات شريط الأحداث في دائرة الاستهداف الأميركي:
أولا: قصف مكتب الجزيرة بتاريخ 13-11-2001 (على ما أذكر) في كابل إبان العدوان الأميركي على أفغانستان، على الرغم من أن إحداثيات موقع المكتب ومواصفاته كانت موجودة مع القوّات الغازية، وعلى الرغم من أن جميع التدابير الاحترازية من رفع الأعلام ووضع الإشارات وغيرها للدلالة على وجود موقع إعلامي في هذه الرقعة من الأرض لتفادي حصول خطأ كانت قد اتخذت.

لكن المكتب قصف ودمّر تدميرا كاملا وشاملا، وما كان ذلك إلا لأن الزميل "تيسير علّوني" -فكّ الله أسره- قد حقّق سبقا صحفيا غير مسبوق، وبالتالي فقناة الجزيرة أيضا قد حقّقت تغطية إعلامية غير مسبوقة وربما هي المرّة الأولى في التاريخ حيث تقوم محطّة ومراسل بتغطية أحداث غزو دون أن تكون هناك مصادر أخرى غير المصادر التي يريد المعتدي.

كانت الجزيرة القناة الوحيدة التي احتفظ مكتبها بربط بالأقمار الصناعية على مدار الساعة، وقد ساء أميركا والعالم نقل الجزيرة لصور الشهداء من المدنيين والأهوال التي تعرضوا لها من قنابل الـ7 طن التي أمطرتهم بها، كما ساءهم أن تنقل صور الخسائر التي منوا بها.

كيف لا والأسطورة تقول إن الجندي الأميركي لا يتم خدشه وإنّ الأسلحة والمعدات الأميركية هي للقيام بنزهة فقط!!


ثانيا: قصف مكتب الجزيرة في بغداد في 8-4-2003 على الهواء مباشرة واستشهاد الزميل "طارق أيوب" -أسكنه الله فسيح جنانه- وجرح زميله المصور زهير العراقي حيث كانا مع زملائهما في تغطية لعمليات القصف الصباحية على العاصمة العراقية من على سطح مبنى المكتب، وقصف مواقع إعلامية وصحفية أخرى.

وقد بدا واضحا حينها أن الغضب الأميركي وصل مداه وأنه لن يسمح بصورة ولا كلمة غير صورة وكلمة السيّد الأميركي، فلم تجد أميركا أمامها من حل لهذه المعضلة سوى قصف الإعلام وقتل المراسلين!!


ثالثا: اعتقال "تيسير علّوني" مراسل الجزيرة في 5-9-2003 للمرّة الأولى بطلب أميركي من إسبانيا، وهو صاحب السبق الأوّل في العديد من المحطات الهامّة والتاريخية إن صحّ التعبير.

وكل ذنبه أنّه كان أول من أجرى سبقا صحفيا بتسجيل مقابلة مع أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة، فكان ذلك كافيا بالمعايير الأميركية والغربية لاتّهامه بالانتماء إلى التنظيم!! ولجعله عبرة لأقرانه. ولو كان غربيا لقامت دولته بإغراقه بالنياشين والأوسمة على عطائه الصحفي ولكن لأنّه عربي ولأنّه ناقل للحقيقة ولأنّه يعمل للجزيرة فقد كان هذا كافيا لإدانته!!


"
الاستمرار في نقل الحقيقة وتعرية الكذب هو السبيل الوحيد للوقوف أمام الهجمات الأميركية والفكر الأميركي الذي يأبى حتى وجود قناة إعلامية رائدة لدى العرب
"

رابعا: اعتقال مصور الجزيرة سامي محيي الدين محمد الحاج السوداني الجنسية في ديسمبر/كانون أوّل 2001، أثناء أدائه عمله في أفغانستان، بتهمة الانتماء للقاعدة!!، وإيداعه معسكر غوانتانامو في كوبا.

وأسوأ من ذلك أن الأميركيين قاموا بمساومته على حرّيته وبراءته بمطالبته بأن يكون مخبرا لديهم في قناة الجزيرة يمدّهم بما يريدون من معلومات، معتقدين أن الأسلوب الإعلامي الأميركي الرخيص الذي تحوّل إلى العمل الاستخباري ينفع في جعل مصور الجزيرة يعمل مرتزقا عندهم، وأبى الشريف سامي.

كل ذلك تم بالإضافة إلى سلسلة من الإجراءات التي تتضمن اقتحام مكاتب الجزيرة وإقفالها ومنع مراسليها من العمل واعتقالهم وطردهم من بعض المؤتمرات الصحفية والتغطيات الخاصّة.. إلخ.


خامسا: ومن أسوأ ما قامت به أميركا اشتراط سحب المراسل أحمد منصور على قناة الجزيرة حين كان يغطي عبر القناة الوحيدة جزءا صغيرا جدا من المجازر غير المسبوقة في الفلوجة العراقية التي استخدمت فيها الأسلحة الكيماوية على رؤوس المدنيين، وذلك في وقت يتباهى فيه الغرب بقيمه عن الإنسانية والديمقراطية وحقوق الإنسان والأخلاق!!

في النهاية ما نستطيع أن نقوله هو أنّ الاستمرار في نقل الحقيقة وتعرية الكذب هو السبيل الوحيد للوقوف أمام الهجمات الأميركية والفكر الأميركي الذي يأبى حتى وجود قناة إعلامية رائدة لدى العرب!!

وأغتنم هذه الفرصة للمطالبة مجددا بالتضامن مع الزملاء تيسير علوني وسامي الحاج وجميع من اعتقلوا في سبيل قول الحقيقة وكشف الكذب وأطالب بالإفراج عنهم.
__________________
كاتب أردني

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.