من روسيا إلى العراق.. جغرافيا سياسية جديدة

undefined
بقلم/ عاطف معتمد عبد الحميد

– روسيا لن تشتبك مع الناتو
– العراق.. البوابة العربية
– بين الموقفين

بعد طول سنين، توقف الجغرافيون أخيرا عن مناقشة تلك النظرية التى سادت أروقة البحث منذ العام 1943 والمعروفة باسم نظرية قلب الأرض Heartland. وفي هذه النظرية يفترض الجغرافي البريطاني ماكيندر بعد وزنه للقوى الإستراتيجية عبر التاريخ أن الصراع بين القوى البرية والبحرية لا بد أن ينتهي بالسيطرة على روسيا التى تجسد قلب العالم، ومن يمسك بهذا القلب فقد تحكم فى نبضات الأرض وتدفق دمائها.

صحيح أن انهيار الاتحاد السوفياتي فى العام 1991 كتب نصف النهاية لنظرية قلب الأرض وما شابها من تحليلات جيوإستراتيجية، إلا أن توسع حلف الناتو في السنوات الخمس الفائتة وخططه للسنوات الخمس المقبلة لم يكتب بقية النهاية فحسب، بل نقل الشرق الأوسط وجنوب آسيا من منطقة ارتطام بين القوى البرية والبحرية إلى منطقة قلب جديدة يقول واقعها إن من يسيطر على الشرق الأوسط "الكبير" يتحكم في قلب العالم ومن ثم فى نبضاته الأيديولوجية وتدفق نفطه وثرواته.

ولأن غياب العدو أشد خطرا على طموحات الإمبريالية من وجوده، فإن العثور على العدو -أو حتى اختراعه- كان حتميا ليخرج الناتو من ارتباك الأهداف التى حددها لنفسها وأدهشت المراقبين لتاريخ الحلف، كتوفير الأمن للأولمبياد الرياضية وحماية مراسم وفعاليات كأس العالم لكرة القدم، بالإضافة إلى أهداف أخرى كدعم الديمقراطية فى الدول الصديقة من كوسوفو إلى كابل.

بل إن الحلف شغل نفسه -مع اختفاء العدو- بقضايا كان ينشغل بها البوليس الدولي، كمحاربة عصابات تهريب المخدرات والجريمة المنظمة، غير أن الناتو سرعان ما استفاد من تداعيات أحداث سبتمبر/ أيلول 2001 وألبس جلباب إمبراطورية الشر السوفياتية لكائن هلامي يمتد من الفلبين في الشرق إلى سواحل الأطلسي في الغرب.

ورغم اختلاف الملابسات تعيش روسيا والعالم العربي فى مأزق تاريخي أمام التوسع المتوالي لحلف الناتو بدرجة لا تهدد الأمن القومي لكلا الإقليمين فحسب، بل وتنبئ بنذر تخشى عقباها كالانكماش والحصار والتفكك.


توسع الناتو على سواحل البحر الأسود يحقق -دون ضجة- تبديدا لأحلام استعادة دور إيراني فى القوقاز وآسيا الوسطى

روسيا لن تشتبك مع الناتو
في مطلع أبريل/ نيسان الجاري احتفلت سبع دول بدخول معسكر الناتو، أربع منها في جنوب وجنوب شرق أوروبا هي سلوفينيا وسلوفاكيا وبلغاريا ورومانيا، وثلاث منها على الحدود الروسية على بحر البلطيق هى أستونيا وليتوانيا ولاتفيا.

وبعد مسلسل من اتهام أستونيا وليتوانيا موسكو بالتجسس طردت الدولتان اثنين من الدبلوماسيين الروس. وقبل أن تنسى القضية كانت طائرات أواكس التجسسية التابعة للناتو تحط في العاصمة الليتوانية في مارس/ آذار الماضي قبل أن ترد مقاتلات السوخوي الروسية ذات القدرة الاستطلاعية بالتحليق فى المنطقة الحدودية لتلاحم الناتو مع روسيا. ولم يمض الأمر دون توعد من موسكو بدعم قدراتها العسكرية في قاعدة كاليننغراد الواقعة وراء خطوط الناتو.

واكتملت الأجواء سخونة بمناقشة أعضاء في مجلس الدوما احتمال قيام روسيا بخطوتين رئيسيتين ردا على توسع الحلف على الحدود الروسية:

1. عدم الالتزام بمعاهدة الحد من الأسلحة التقليدية وتكديس قدر مناسب من الأسلحة على خط التماس مع حدود حلف الناتو الجديدة (أستونيا ولاتفيا وليتوانيا).

2. زيادة القدرات النووية الروسية دون الالتزام بمعاهدات سابقة لتدمير هذه الأسلحة، أو تطوير قدرات نووية تعوض توسيع الناتو.

ورغم ذلك لا يتوقع الباحثون أن تتطور الأزمة إلى اشتباك بين روسيا والناتو على جبهة بحر البلطيق، رغم خطورة اختراق طائرات الناتو التجسسية لمساحات واسعة فى قلب روسيا الغربية مدعومة بمحطات رادار تتجسس لمئات الكيلومترات في العمق.

ورغم هذا لا يمكن إنكار قدر من القناعة الروسية بأن وجود الناتو في أفغانستان خلص موسكو من نظام شكل لها قلقا في أواخر التسعينيات وخاصة علاقته بالحركة الأصولية فى الشيشان وتهديده بتصدير فكرة الحكم الإسلامي إلى دول آسيا الوسطى ومنها إلى قلاقل في الجمهوريات الإسلامية بروسيا. ولعل هذا ما يضطر موسكو لأن توافق على طلب الناتو السماح له بتمرير إمداداته العسكرية إلى أفغانستان عبر الأراضي الروسية‍‍.

ومن زاوية أخرى تستعد الصين لتدابير أكثر حسما من الموقف الروسي باقتراب خطى الناتو من آسيا الوسطى ومنها إلى الأقلية الإسلامية فى التركستان الشرقية بغرب الصين ذات المطالب الانفصالية وشكوى حقوق الإنسان.

أما توسع الناتو على سواحل البحر الأسود (بضم رومانيا وبلغاريا والتحضير لضم أوكرانيا) والتمهيد لضم جورجيا وأذربيجان فى القوقاز فيحقق -دون ضجة- تبديدا لأحلام استعادة دور إيراني فى القوقاز وآسيا الوسطى، بل مزيدا من دعم النموذج التركي لدى حكومات الإقليمين.

ورغم أن الناتو قد حقق بحصار روسيا من الغرب والشمال الغربي والجنوب ما لم يكن يحلم به، إلا أن منظري الناتو لم يتوقفوا ليستمتعوا بالنصر، بل سرعان ما نادوا "الخطر الأكبر لن يأتي من الشرق (روسيا)، الخطر آت من الجنوب، الشرق الأوسط وأفغانستان".

وكان الشرق الأوسط وجنوب آسيا يعرفان في أدبيات الجغرافيا السياسية كإقليم جيوسياسي تتكسر عليه مطامع القوى الجيوإستراتيجة البرية (الاتحاد السوفياتي) والبحرية (أوروبا والولايات المتحدة). أما الآن فقد تغير المفهوم والمصطلح واًصبح الإقليم -الذي يصنف الآن ضمن الشرق الأوسط الكبير- الوجهة الأولى لتوسيع ثياب الناتو نحو الجنوب والشرق.


سيصبح من السهل مد جسور برية وجوية وبحرية من العراق إلى القواعد الأميركية في الخليج، دون حاجة لتذكير سوريا وإيران والسعودية بالمسافات الجغرافية القريبة والتقنية البعيدة بين الحلف وبينها

العراق.. البوابة العربية
لم يعد الناتو -المتفهم جيدا لمشاغل انكفاء موسكو على قضاياها الداخلية- مهتما بمماحكة روسيا. بل يمضي الانشغال الآن لتدعيم الجسر الأرضي إلى تركيا ومنها إلى العراق، بعد أن شكلت هذا الجسر سلوفاكيا ورومانيا وبلغاريا المنضمة حديثا إلى الناتو.

وسيصبح من السهل مد جسور برية وجوية وبحرية من العراق إلى القواعد الأميركية في الخليج، دون حاجة لتذكير سوريا وإيران والسعودية بالمسافات الجغرافية القريبة والتقنية البعيدة بين الحلف وبينها. وليس من الضروري أن يزحف الحلف على بقية دول المشرق العربي كالأردن ولبنان وفلسطين، فلهذه المواقع مشاغل ومشاكل تزيد تكلفتها عن العائد من ورائها، وتتكفل بجزء معتبر منها دولة الاحتلال الإسرائيلي.

وتسهم الدول المنضمة حديثا للناتو في تفرقة الدم على القبائل، فهناك بالفعل قوات بولندية مدعومة من الناتو في العراق، كما ستسهم قوات رمزية من كل من أستونيا ولاتفيا وليتوانيا وسلوفاكيا ورومانيا وبلغاريا فى مناطق مختلفة من العراق.

ومع زيادة الأعضاء فى الناتو تزداد قناعة قيادة الناتو بأن اعتراض دول مثل فرنسا أو ألمانيا أو حتى انسحاب إسبانيا لن ينظر إليه كأكثر من اعتراض "أقلية" أمام أغلبية مضمون صوتها من الدول حديثة الانضمام التي ستزيد عددا من 26 إلى 31 قريبا.

كما أعفى هذا التوسع الحلف من الاستمرار في عقد صفقات لضمان تحليق طائراته فوق دول شرق أوروبا وانتظار موافقة مؤسساتها السياسية الداخلية، الآن يمكن للناتو التحليق دون انقطاع من المحيط الأطلسي فى الغرب وحتى بحر قزوين فى الشرق، ومن بحر البلطيق فى الشمال وحتى البحر العربي فى الجنوب.

وفي مثل هذا الشهر من العام الماضي (20 أبريل/ نيسان 2003) سربت وسائل الإعلام الأميركية خطة للبنتاغون بزرع أربع قواعد عسكرية في العراق فى كل من باشور في الشمال الكردي وبغداد والناصرية، وفي غرب العراق محل قواعد عراقية قديمة.

ولأن موقف واشنطن في أبريل/ نيسان 2003 غير ما هو عليه في أبريل/ نيسان 2004 فقد تم البحث عن قناع قانوني بإقامة قواعد للناتو فى العراق هدفها المعلن:

1- تدريب القوات المسلحة العراقية للحفاظ على الأمن الداخلي وحسن الجوار، إضافة إلى مراقبة مناطق التوتر وحفظ حقوق الأقليات، ولكن مع تخطي إشكالية خلق جيش عراقي ضعيف لا يهدد إسرائيل ودول الخليج، وفى الوقت نفسه لا يؤدي ضعفه إلى اختلال فى موازين القوى مع إيران.

2- تدعيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وأداء الواجبات "الأخلاقية"، وفى ذلك يبشر وزير خارجية رومانيا العراقيين فى حفل انضمام بلاده للناتو بالقول "يمكنني أن أتحدث باسم بلادي وباسم كل زملائي الذين نراهم هنا من دول عانت من دكتاتورية مشتركة، ليس فقط عن الضرورة الإستراتيجية لإرساء الاستقرار في العراق، بل أيضا عن الواجب الأخلاقي في مساعدة دولة عانت من دكتاتورية مشابهة أو ربما أسوأ".

ولم يتردد بعض الصحافيين ذوى النفوذ -كتوماس فريدمان- باقتراح استغلال المخزون العددي لدول عربية كبرى مثل مصر فى إمداد الناتو بقوات تعوض العجز فى أعداده والاستفادة من المرجعية الإسلامية والعربية للقوات المصرية للتدخل فى مناطق النزاع الشرق أوسطية فى العراق والسودان والجزائر والصحراء الغربية والخليج. والنتيجة فى هذه الحالة مزدوجة، امتصاص كراهية سكان مناطق الشرق الأوسط للوجوه الحمراء والبيضاء الأوروأميركية، وفى الوقت نفسه تغذية كراهية مقابلة لجنود عرب ومسلمين.


ألمانيا وفرنسا لا تظهران عدم رضاهما عن سياسة الولايات المتحدة باحتكار التغيير فى العراق نقدا لأنانية أميركا بقدر ما يعكس أنانية مشابهة لهذه الدول التي تشاكس بسبب انكماش مصالحها

بين الموقفين
بين الموقفين الروسي والعربي لا تخطئ العين أن حصار روسيا بدول الناتو يخنق كل إمكانات تمددها الجيوسياسي ويغلق الباب أمام أي توسع خارجي إستراتيجيا كان أم اقتصاديا، وهو ما قد تكون له نتائج إيجابية غير مباشرة بتدشين مشاريع الإصلاح الداخلي تحينا لفرصة أفضل ولو بعد عقود.

أما الدول العربية المرشحة لوجود قواعد الناتو بها رغما عنها (كالعراق والسودان) أو بإرادتها (كليبيا) فيكرس الأمر قضاء على أحلام الحراك السياسي المفترض أن يفضي إلى ولوج توجهات قومية أو دينية إلى السلطة، والنتيجة عقود جديدة من معاهدات "القواعد" العسكرية الشكل المعدل للإمبريالية من دون احتلال.

وليس من المأمول حدوث شيء ذي قيمة من قبل المتعاطفين مع القضايا العربية كفرنسا وألمانيا. وفي ذلك يعترف المحلل السياسي أندريس رينكى فى صحيفة "هانديلسبلات" الألمانية مطلع أبريل/ نيسان الجاري بأن بلاده وفرنسا لا تظهران عدم رضاهما عن سياسة الولايات المتحدة باحتكار التغيير فى العراق نقدا لأنانية الولايات المتحدة بقدر ما يعكس أنانية مشابهة لهذه الدول التي تشاكس بسبب انكماش مصالحها.

وقبل البحث عن مخططات بديلة لمواجهة الناتو فى العالم العربي لا بد من حل شفرة موقف دول الخليج العربية التى يصعب تخيل تفكيك القواعد الأميركية بها في ظل المعطيات الحالية، توتر المنطقة، همة الإدارة الأميركية وعزمها، مفاهيم مائعة تشرع لوجود القواعد العسكرية خلطا بين كبائر المحظورات ورخص الضرورات وفضائل التجديد.

كما أن الدول العربية المتوسطية المتطلعة للتعاون مع الناتو عليها أن تتخطى الشعارات الخادعة التى يروج لها الناتو من تعاونه معها، التي يؤكد فيها أن هدفه دعم حرية الإعلام والتعاون المعلوماتي والإنقاذ البحري، وحماية البيئة، ودعم الاكتشافات العلمية.

وإذا كان الأمين العام الأسبق لحلف الناتو اللورد روبرتسون قد صرح حين خروجه من منصبه "لو لم نذهب إلى أفغانستان لأتت أفغانستان حاملة مشاكلها إلى بيوتنا" علينا أن نسأل إذن هل من الحتمي أن يرحب العالم العربي بالناتو؟ واضح أن للعراق كلمة أخرى يقولها الآن.. بدماء أبنائه.
ـــــــــــــــ
باحث في الشؤون الروسية

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.