حصار الفكر في العالم العربي



undefined
بقلم/ عادل لطيفي

– المجتمع العربي والحداثة
– القراءة الانتقائية وحماية الموروث
– شرعية الدولة

تشهد الساحة الثقافية العربية من حين لآخر جدلا حادا إثر نشر عمل ما من الأعمال الأدبية أو الدراسات العلمية. كلنا يذكر الجدل الساخن الذي أفرزته محاولة منع بعض الأعمال مثل رواية حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر" أو إعادة طبع ديوان أبي نواس ودراسة نصر حامد أبو زيد حول قراءة النص الديني.

يعيد الواقع العربي اليوم اجترار إحدى جوانب مأساته من خلال منع مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر لبعض الأعمال بدعوى تعارضها مع الدين ومن بينها رواية سقوط الإمام لنوال السعداوي.

وربما صار الوضع اليوم أكثر خطورة من ذي قبل، خاصة في مصر ذات التقاليد الإنتاجية العريقة في المجال الثقافي، وذلك من خلال تعدد الأطراف المشرفة على الرقابة (الدولة، المجتمع ثم المؤسسة الدينية).

الأمثلة عديدة في الحقيقة وتتجاوز إطار العالم العربي لتشمل بقاعا أخرى من العالم الإسلامي، ولكن رغم ذلك، يمكننا التأكيد دون حرج على أن محاسبة الإنتاج الفني والعلمي بخلفية دينية تبقى اليوم امتيازا لبعض الدول العربية المشرقية بما فيها مصر.

إن هذا الوضع المزري الذي يعيشه الفكر في العالم العربي يفسر إلى حد بعيد مضمون تقرير الأمم المتحدة الأخير حول وضع الثقافة في هذا الفضاء، كما أنه يعطي بعض التفسيرات حول مضمون مقولة مجتمع المعرفة الذي خلص إليه التقرير والذي تبنته الإدارة الأميركية في مشروعها للشرق الأوسط الكبير.

أقول منذ البداية، إن مثل هذه الأنظمة الرقابية، سواء الرسمية المعلنة منها أو غير المعلنة، لا تؤدي إلا إلى زيادة ترك المجال للتدخل الخارجي بقصد الهيمنة، طالما يتم لجم المجتمع ومنعه عن التعبير عن إحدى مكوناته.

نلاحظ هنا أن هذه القضايا لم تتحول إلى سجال فعال ينخرط في سياق بناء إبستيمولوجي واضح. ونحن نقترح في هذه المساهمة المتواضعة إثارة جانب من المسكوت عنه لا غير.

المجتمع العربي والحداثة


المواجهة بين القيم التقليدية وقيم العقل تمثل روح الحداثة سواء في ثوبها الأوروبي أو في تجربتها في الصين والهند واليابان وذلك بغض النظر عن النتائج التي آلت إليها

لابد من التأكيد على مدى أهمية النقاش الذي أثارته قضية الآثار الأدبية والعلمية في السنوات الأخيرة، وتنبع هذه الأهمية من خلال الكشف عن تنوع وحركية التلوينات الثقافية داخل الفضاء العربي، وهو تنوع خلاق للتاريخ، غير أنه اختفى وراء النظرة الصماء والإقصائية لمفاهيم مثل الوطنية والقيم والأخلاق.

يقول الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد" وفي مفهوم غير مباشر لهذا التاريخ الخلاق "الحركة سنة عاملة في الخليقة دائبة بين شخوص وهبوط. فالترقي هو الحركة الحيوية أي حركة الشخوص ويقابله الهبوط وهو الحركة إلى الموت".

تواصلا مع فكر الكواكبي وغيره من رموز الإصلاح السابقين فإن السجال يجسد انخراط المجتمع العربي في غياهب الحداثة ولو بشيء من التأخير وبروح التردد والاحتشام.

ونحن نتحدث هنا عن الحداثة بالمعنى الصارم للكلمة. فالمواجهة بين القيم التقليدية وقيم العقل تمثل روح الحداثة سواء في ثوبها الأوروبي أو في تجربتها في الصين والهند واليابان، وذلك بغض النظر عن النتائج التي آلت إليها.

المهم هنا أن نلاحظ أن هذا االسجال يجسد بطء وتيرة تحرك الفكر العربي، هذا الفكر المتردد والمقتنع ربما بواقعه دون بذل مجهود لاستشفاف آفاق مستقبلية. إننا لم نتجاوز اليوم وبشكل جذري الإشكاليات التي كان قد أثارها فكر الإصلاح. لم نتجاوز النقاش الذي دار حول كتاب علي عبد الرازق حول الإسلام وأصول الحكم، لم نتجاوز النقاش بين شيوخ الزيتونة في تونس والطاهر الحداد حول المرأة في الشريعة والمجتمع في الثلاثينات من القرن الماضي.

القراءة الانتقائية وحماية الموروث


القراءة الانتقائية وبعين قاصرة للتراث هي التي أدت إلى إبراز بعض المعطيات على أنها غريبة عن واقعنا وعن هويتنا

لا يمكننا إبداء رأي في موضوع الروايات وغيرها من الآثار التي أحدثت ضجة دون الرجوع إلى الموروث الثقافي الإسلامي كي نفهم موضع الخطاب الحالي من هذا الموروث، ونسلط الضوء على جانب مغيب في الخيال الجمعي للمجتمع العربي والإسلامي.

كانت مسألة الجنس والإباحية في بعض الأحيان مادة الخلاف وتبريرا للبعض لضرب الخصوم إما بالتشدد أو بالانحلال، مثلها مثل قضية التعدي على الدين ذاته من خلال موقف ما من النصوص التأسيسية. المهم هنا أن نفهم كيف يبرز حضور هذه المسائل في التراث الإسلامي.

في ما يتعلق بمسألة الجنسانية (sexualité) وعلى خلاف ما يصوره الفكر التقليدي الحالي فإن حضور الجنسانية في الإسلام تميز بالمباشرة وبالتساهل وبنوع من الأريحية في التعامل مع اللذة ومع الجنس في سياق ضوابط شرعية معروفة، لكن هذه الضوابط لا تلغي هذا الحضور المعلن الذي يصل حد الوجوب. والآيات القرآنية عديدة في هذا الاتجاه (البقرة 223 والواقعة، 12-23). كما وردت في السنة النبوية العديد من الأحاديث الصحيحة السند التي تمثل مخزونا هائلا فيما يخص موضوع اللذة، ومن بينها "إذا أحدكم أعجبته المرأة فوقعت في قلبه فليعمد إلى امرأته فليواقعها فإن ذلك يرد ما في نفسه" (مسلم، ج4، ص12).

انطلاقا من هذا الإرث النصي، تعددت الكتابات في مسائل يخيل إلينا اليوم أنها من المحظورات، ولم تكن هذه المؤلفات صادرة عن شعراء المجون وعن كتاب الزندقة فقط، فقد أبدع بعض الشيوخ والعلماء المشهورين في كتابات حول موضوع الجنس ولم يمنع تخصصهم في علوم الشرع ذلك. إذ ساهم ابن قيم الجوزية، وهو العالم الحنبلي وتلميذ الإمام المتشدد ابن تيمية، من خلال عمل بارز هو "أخبار النساء".

في كتاب ابن قيم الجوزية يمكننا أن نقرأ القصة التالية "وقع بين امرأة وزوجها شر فجعل يكثر عليها بالجماع، فقالت له: أبعدك الله كلما وقع بيننا شر جئتني بشفيع لا أطيق له ردة" (الحديث4).

كما ساهم الفقيه ذائع الصيت جلال الدين السيوطي من خلال قطع أدبية مثيرة كانت إحداها وصف أشخاص من عشرين حرفة مختلفة لليلة زواجهم، كل يصفها بمصطلحات من حرفته.

ومن بين الإبداعات الأدبية في التراث العربي "المنبوذ" كتاب الأغاني للأصفهاني الذي يقول فيه علم بوزن ابن خلدون "ولعمري إنه ديوان العرب وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من فنون الشعر والتأريخ والغناء وسائر الأحوال ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه" (المقدمة، ص554).

هذه الأريحية الإسلامية في التعامل مع معطى اللذة الحسية تختلف تماما عما نعرفه في التقاليد المسيحية مثلا. فالمجاهرة والتشجيع والحث في الإسلام يقابله الإنكار والرفض والتدنيس في التقليد المسيحي.

ففي رسالة للقديس بولص نقرأ ما يلي "أطيعوا الروح القدس ولا تمارسوا اللذات الجسدية لأن للجسد من اللذات ما يتناقض مع ملذات الروح وللروح ما يتعارض مع ما للجسد… والحقيقة أن ملذات الجسد معروفة فهي الفسق والنجاسة والانحلال… أما اللذين هم ليسوع المسيح فقد ضحوا بجسدهم مع ما فيه من عواطف ورغبات" (العهد الجديد، ص181).

المسألة الثانية في هذا السياق تتعلق بمدى صحة ما يروج من تعد على الدين وذلك بمجرد محاولة بلورة رؤية أخرى لتناول النصوص التأسيسية. فقد منع الأزهر صدور عمل لعلي يوسف علي بدعوى تشكيكه في السنة وخاصة صحيحي مسلم والبخاري. في هذا السياق أود القول بأن المصادر الإسلامية نفسها تشرع لمثل هذا الشك، ولنا في الأمثلة التالية دليل على ذلك:

– تجمع المصادر الإسلامية على أن الراوي المشهور عبد الله بن عباس لم يتجاوز سن الثانية عشرة عندما توفي الرسول في السنة الحادية عشرة للهجرة. ومن حق كل دارس أن يشكك في الكم الهائل من الأحاديث التي قيل إنه رواها، ولنتذكر هنا أن عصر التدوين الأساسي تم في عهد بني العباس وهو جدهم.

– نفس الملاحظة يمكن أن نسوقها في شخصية الراوي أبو هريرة، والذي تورد المصادر الإسلامية أنه لازم الرسول لفترة قصيرة فقط.

– نستغرب كذلك من كون حديث مشهور شرّع لقاعدة الإجماع وهو"لا تجتمع أمتي على ضلالة" لا نجد له أثرا في رسالة الشافعي المؤسس الحقيقي لأصول الفقه. ومن حق الدارس أن يتصور أن الشافعي لم يكن يعرف هذا الحديث.

– بالرغم من تمسكهم بكتب الصحاح من الحديث فإن العديد من الدارسين التقليديين يتحاشون بعض الأحاديث المحرجة التي وردت فيها. مثل الحديث التالي الذي ورد في صحيح مسلم: "…عن عائشة رضي الله عنها قالت كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله (ص) وأقول: أوتهب المرأة نفسها. فلما أنزل الله عز وجل "ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت" (الأحزاب 33) قالت قلت: والله ما أرى ربك إلا يسارع لك في هواك" (كتاب الرضاع).

لا أعتقد أن هذه المصادر الإسلامية تحاول تشويه شيء ما، غير أنه يجب الاقتناع أن نظرة السلف للتراث وطريقة تعامله معه تختلف كثيرا عما يتصوره البعض اليوم. إن ما أود التأكيد عليه هو أن الطهرانية التي يبرزها الخطاب الإسلاموي الحاضر، لا تحيل بالضرورة إلى نموذج إسلامي ما، لأن هذا النموذج متخيل أكثر منه حقيقة تاريخية. إن القراءة الانتقائية وبعين قاصرة للتراث هي التي أدت إلى إبراز بعض المعطيات على أنها غريبة عن واقعنا وعن هويتنا. إن المطروح وبشكل ضروري هو قراءة هذا التراث قراءة تاريخية منفتحة ومتزنة لا انفعالية كي نقف على حقيقة الادعاء بحماية الموروث.

شرعية الدولة


انتشار الأعمال الهابطة لا يفسر إلا بكثرة المحظور
ولذلك لا يمكن أن تنبع الرقابة إلا من عقل المبدع

كان النقاش حول رواية حيدر حيدر قد كشف تورط الدولة كمحرك رئيسي للصراع وكحكم نهائي فيه. وصار الوضع اليوم أكثر خطورة من خلال إعطاء وزير الثقافة المصري فاروق حسني رسميا سلطة الرقابة الفكرية لجامع الأزهر. وكأن الدولة سلمت للمجتمع ملفا شائكا لتضمن دور المراقب المحايد لكل توجهات المجتمع، ولم لا اللعب على موازين القوى بينها.

نتذكر أن النقاش حول وليمة أعشاب البحر كان قد حل بتدخل وزير الثقافة فاروق حسني، أما اليوم فالدولة المصرية تقف موقفا مغايرا. السؤال المطروح هنا يدور حول أرضية الموقفين هل كانا مبنيين على خلفية سياسية أم على خلفية ثقافية؟

أختصر هنا إجابتي بالقول إن القضية تعكس في جانب منها أزمة شرعية الدولة في البلاد العربية. فهذه الدولة إما وليدة الكفاح ضد المستعمر (المغرب، تونس، الجزائر) وطغى فيها مفهوم التنمية على مستوى الخطاب الرسمي، أو أنها وليدة الثورة (العراق، مصر عبد الناصر، سوريا، ليبيا) وهنا هيمن مفهوم المواجهة والمقاومة.

المهم أن شرعية الحكم كانت إما نضالية (سواء ضد المستعمر أو ضد الإمبريالية والصهيونية) أو ربح رهان التنمية في الحالة الأخرى، وهو خطاب يشرع للسلطة أكثر من كونه يحمل مشروعا مجتمعيا قادرا على إقناع الجماهير بجدواه، خاصة وأن هذه الدولة فشلت في مجال التنمية كما أصبحت الآن تلهث وراء الإمبريالية لكسب رضاها.

ولسد هذه الثغرة، أي فقدان أسس شرعيتها التقليدية، تحاول الدولة لم شتات الشرعية من خلال البروز بمظهر المحافظ على قيم المجتمع وأخلاقه وآدابه العامة طالما لا تمتلك قيما سوى قيم السلطة والإقصاء في سياق العقلية الأبوية التي تحكمها.

إن هذه الدولة غير قادرة، بحكم تركيبتها وأصولها، على التعامل مع الإسلاميين أو مع العلمانيين والتحديثيين إلا من خلال لعبة التوازنات الضامنة لاستمرارية السلطة طالما أنها لا تفقه شيئا لا في الإسلام ولا في الحداثة والعلمانية. لقد كان حريا بالمثقفين المصريين رفض تدخل الدولة مهما كان مساندا لهم والانتظام في شكل مدني قادر على توفير ظروف العطاء والإبداع.

لقد راحت أغلب الكتابات الصحفية التي تناولت موضوع الروايات المثيرة للجدل تتسائل عن القيمة الأدبية لهذه الأعمال، ومن خلالها الحكم عليها بالاستمرارية أو بالموت. إنها نموذج لسخافة الثقافة في زمن الرداءة والتصحر الفكري.

في البلاد الأوروبية وكذلك في اليابان وفي الهند وأميركا تصدر يوميا العديد من الأعمال الفنية الهابطة والتي تمس ما سمي لدينا "الذوق العام" لكنها لا تلقى طريقها إلى الرواج على عكس الأعمال الجيدة، ليس بسبب وجود رقابة صارمة، بل على عكس ذلك بسبب غياب الرقابة.

إن الوجود الرسمي للرقابة يعني حصر الإنتاج الثقافي في مصدر واحد وهو يعني وضع قواعد سلطوية تقنن الإنتاج ويفضي هذا كله إلى البحث عن عناصر يتجانس ضمنها هذا الإنتاج، ومثل هذا التجانس ينتج الشذوذ الذي يبقى بريقه جذابا لمعرفته مهما كان رديئا. إن انتشار الأعمال الهابطة لا يفسر إلا بكثرة المحظور، ولذلك لا يمكن أن تنبع الرقابة إلا من عقل المبدع (بالمفهوم الواسع).
ــــــــــــــــــ
كاتب تونسي

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.