المد الإسلامي في فرنسا بين التحجيم والتنظيم


undefined
*بقلم/ عادل قسطل

– الجزائر والمغرب والإخوان المسلمون
– أحرقوا المسلمين
– شيراك والعالم الإسلامي

ما الذي يحصل عليه الزائر للموقع الإلكتروني لوزارة الداخلية الفرنسية عندما يبحث عن موضوعات مرتبطة بكلمة "إسلام"؟ يقترح الموقع وثائق أشدها وقعا على نفوس المسلمين تلك المتعلقة بالإرهاب.

هذا يلخص وضع الإسلام اليوم في فرنسا، فالمسلمون لا يشتكون من مؤامرات تحاك ضدهم في دهاليز السلطة لطردهم أو قمعهم بقدر ما يعانون من الاتهامات الدائمة المعتمدة على خلفيات قد لا تكون لها علاقة بالواقع الفرنسي أساسا. هذا على المستوى الرسمي. أما عمليا، فإن مظاهر الإسلاموفوبيا وكراهية المسلمين حقيقية ومقلقة.

أبدى وزير الداخلية نيكولا صاركوزي صرامة حقيقية في تعامله مع ملف تنظيم المسلمين وحقق ما عجز عن تحقيقه سابقوه وهو إنشاء "المجلس الفرنسي للدين الإسلامي"، وهو ما جعل بعض الشخصيات الإسلامية تقول إنه عالج الموضوع بقبضة يد نابليونية نسبة إلى الإمبراطور نابليون الذي استدعى ممثلي الجالية اليهودية لاجتماع تاريخي في 1807 وفرض عليهم تنظيما كانت له انعكاسات ملموسة إلى اليوم.


غالبا ما تعامل فرنسا الإسلام بمنهجية بوليسية تجعل من الديانة الثانية محل شكوك ومخاوف دائمة

الجالية اليهودية أقدم من الجالية المسلمة، وهو ما يفسر -جزئيا- المشاكل التنظيمية التي يعاني منها المسلمون. لقد فرضت وزارة الداخلية على المسلمين رئيسا غير منتخب هو دليل أبو بكر عميد مسجد باريس الذي عين رأس "المجلس الفرنسي للدين الإسلامي" دون اقتراع.

لا شك أن فرض أبو بكر بقرار فوقي يحقق للسلطات الفرنسية أهدافا معينة لأن أقوى التنظيمات الإسلامية هو "اتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا" (إخوان مسلمون) وهو أقدرها على تجنيد أفراده بدوافع نضالية بحتة، وفهم قادة التنظيم جيدا ما كان يعنيه صاركوزي بقوله "لن أترك الأصولية تجلس على مائدة الجمهورية".

وبالنسبة لعدد المسلمين في فرنسا لا توجد أرقام رسمية, بل إن الإحصائيات القائمة على أساس ديني مخالفة للقانون الفرنسي، وآخر عملية إحصاء على هذا الأساس تمت عام 1872. بعد ذلك صدر قانون 1905 الذي يسري مفعوله إلى اليوم ويفصل بين الدولة والدين.

وإذ ترفض فرنسا إضفاء صبغة رسمية على الأديان فإنها بنت للمسلمين مسجد باريس الكبير عام 1926 اعترافا بالتضحيات التي قدموها خلال الحرب العالمية الأولى. وكان الجزائريون خلال الحقبة الاستعمارية يسمون "الفرنسيين المسلمين".

ويعيش أكثر من خمسة ملايين مسلم اليوم في هذا البلد الذي يضم أكثر من 1500 مسجد ومصلى. ووزارة الداخلية هي المسؤولة عن الأديان وغالبا ما تعامل الإسلام على وجه الخصوص بمنهجية بوليسية تجعل من الديانة الثانية لفرنسا محل شكوك ومخاوف دائمة.

الجزائر والمغرب والإخوان المسلمون
ولكن ما هو "المجلس الفرنسي للدين الإسلامي"؟ لقد تعود المتتبعون لشؤون الجالية المسلمة في فرنسا على مثل هذه الأسماء والعناوين، لأن عمليات التنظيم هذه بدأت عام 1989 بمبادرة من بيير جوكس وزير الداخلية في الحكومة الاشتراكية آنذاك، وظهر حينئذ "مجلس التفكير حول الإسلام في فرنسا".

وفي 1993، أراد وزير الداخلية اليميني شارل باسكوا تأسيس "المجلس التمثيلي لمسلمي فرنسا" برئاسة دليل أبو بكر عميد مسجد باريس الكبير، ولكنه كان مجرد حبر على ورق وتبعته نزاعات داخلية بين المسلمين اختلطت بالأحداث السياسية والأمنية في سياق ميزته تفجيرات في باريس نسبت لـ"الجماعة الإسلامية المسلحة" الجزائرية.


عندما أرادت فرنسا تكوين صورة أوضح عن التيارات الإسلامية أنشأت تنظيما يسهل التحكم فيه

وعندما أصبح جون بيير شفينمان وزيرا للداخلية في حكومة ليونيل جوسبان الاشتراكية، قرر في 1999 إجراء استشارة واسعة وفرت لخليفته اليميني نيكولا صاركوزي أرضية عمل حقيقية سمحت له في ديسمبر/ كانون الأول 2001 بالإعلان عن انتخابات لتأسيس "المجلس الفرنسي للدين الإسلامي".

وجرت تلك الانتخابات فعلا في أبريل/ نيسان ومايو/ أيار2003 ولكن رئيس الهيئة الإسلامية الجديدة دليل أبو بكر عين مسبقا من وزير الداخلية، بينما تم انتخاب فؤاد علوي من "اتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا" (الإخوان المسلمين) ومحمد بشاري من "الفدرالية الوطنية لمسلمي فرنسا"(الموالية للمغرب) كنائبين له.

ولا يتمتع دليل أبو بكر بشعبية كبيرة لدى المسلمين في فرنسا، فهو ليس مرجعا دينيا وعلاقته بمسجد باريس وراثية –إن صح القول-، فقد كان أبوه حمزة أبو بكر عميدا للمسجد أيضا. عندما أعلنت وزارة الداخلية الفرنسية تعيينه رئيسا لـ"المجلس الفرنسي للدين الإسلامي"، تقدم له سفير إسرائيل بفرنسا بأحر التهاني وزاره في مكتبه، ولما سئل أبو بكر عن ذلك برره برغبته في إنجاح "خارطة الطريق".

أخطاء سياسية كهذه أبعدته أكثر عن واقع المسلمين، ولكنه يتمتع بثقة الحكومتين الجزائرية والفرنسية، ومنصبه دبلوماسي ليس إلا، ولم يتخذ مواقف فيها ما يشير إلى غيرته على الإسلام والمسلمين. "المجلس الفرنسي للدين الإسلامي" يجمع إذن أهم التيارات التي تشكل الجالية المسلمة: الجزائر، والمغرب و"الإخوان المسلمين". كأن السلطات الفرنسية كانت تريد صورة أوضح عن تلك التيارات وتحركاتها فأنشأت لها تنظيما يسهل التحكم فيه.

أحرقوا المسلمين
تصريحات وزير الداخلية صاركوزي الأخيرة الداعية إلى احترام الإسلام والمسلمين سبقتها قبل أشهر تصريحات أخرى عبر فيها عن رفضه للأئمة الأجانب غير المرغوب فيهم، بل طرح فكرة "تجريد الأئمة المتهمين بالإرهاب من الجنسية الفرنسية".


الداخلية الفرنسية تؤكد الطابع الأخلاقي للخطب الإسلامية وابتعادها عن التحريض والإثارة

وقال في نفس السياق إنه سيفرغ 200 موظف من وزارة الداخلية للاستخبارات المتعلقة بالإرهاب. وتركيز صاركوزي على موضوع الأئمة بلهجة التحذير والتخويف والتهويل يتناقض مع دراسة أعدها "معهد الدراسات العليا للأمن الداخلي" التابع لوزارة الداخلية التي خلصت إلى الطابع الأخلاقي للخطب الملقاة في المساجد الفرنسية وابتعادها عموما عن التحريض والإثارة.

ولم تتضمن أغلبية الخطب المدروسة تحريضا على الجهاد بل اجتنب فيها الأئمة الموضوعات السياسية. ومن الأمثلة التي وقف عليها الدارسون خطبة "صيفية" ربط فيها أحد الأئمة بين عطلة نهاية السنة و"الرحيل الأكبر" بعد الموت بينما ذكر آخر "الامتحان الأكبر" في خطبة موجهة للشباب المقبلين على امتحانات دراسية، وهكذا دواليك.

وكشفت وزارة الداخلية في 2001 أن 40% من الأئمة في فرنسا هم من أصل مغربي و9% منهم حاصلون على الجنسية الفرنسية بينما كانوا لا يتجاوزون 4% في 1994. أما الأئمة المولودون في فرنسا (أبناء الجيل الأول من المهاجرين) فهم يشكلون أقلية صغيرة جدا وهذا ما يصعب مهمة وزير الداخلية الذي قاوم فكرة استقدام أئمة من الخارج.

وتعترف جمعيات إسلامية أن التكوين الديني لا يزال ضعيفا في فرنسا بل يفسر البعض رغبة بعض الشباب في السفر إلى باكستان وأفغانستان وغيرها من الدول المسلمة بحرصهم على تعلم الدين بتكاليف أدنى من التي تطلب منهم في فرنسا. ولكن التخويف من التطرف يؤدي أحيانا إلى تصرفات انتقامية ضد المسلمين.

وتعرض مسجد ببلدة بيلي بجنوب شرق فرنسا للحرق بواسطة سيارة مسروقة اقتحم بها مجهولون مدخل المسجد فاشتعلت فيه النيران. حدث ذلك في 16 مارس/آذار 2001، أي قبل تفجيرات نيويورك وواشنطن.

وفي 26 أبريل/نيسان 2002، ألقيت قارورة "كوكتيل مولوتوف" على مسجد مدينة نيم بالجنوب وقال مسؤول في ذلك المسجد إنه تلقى تهديدات بالموت، وكاد مسجد في مدينة أبري سان جيرفي بالضاحية الشمالية لباريس يحرق أيضا.

وقام شابان بمحاولة مماثلة ضد مسجد في مقاطعة "مارن" وسط فرنسا، وعندما ألقت عليهما الشرطة القبض قالا إنهما كانا يريدان "تحذير الجالية المسلمة".

وفي مدينة فالونس بالجنوب الشرقي كتب مجهولون بالخط العريض على جدار مسجد: "أحرقوا المسلمين". وتلقى مسؤولو مسجد في مدينة باربينيان الجنوبية طردا بريديا من مرسل مجهول فرفضوا استلامه وأعادوه لمصلحة البريد وهناك انفجر بين يدي موظفة. وأطلق مجهول النار على مسجد فيلبانت في الضاحية الشمالية لباريس.

شيراك والعالم الإسلامي
وإزاء هذه الاعتداءات لماذا لم يستنجد المسلمون رسميا بالسلطات الفرنسية مثلما فعلت التنظيمات اليهودية؟ لأن المسلمين غير مهيكلين في إطار هيئة تحصي تلك الاعتداءات. وهناك عامل آخر يفسر هذا الغياب هو كون أغلبية المشرفين على المساجد من الرعيل الأول للمهاجرين وهم لا يحملون الجنسية الفرنسية ويخشون من رفع دعاوى قضائية.

وفي المقابل لم تثر تلك الاعتداءات ضد الإسلام والمسلمين في فرنسا نفس التعليقات والتنديدات التي أثارتها الاعتداءات على المعابد اليهودية مثلا. زار رئيس الوزراء جون بيير رافاران مسجد باريس يوم الجمعة 17 أكتوبر/تشرين الأول, وهي أول زيارة لمسؤول بهذا المستوى، رفقة وزير الداخلية نيكولا صاركوزي وندد بالإسلاموفوبيا مشددا في الوقت ذاته على رفضه للمظاهر الدينية في المدارس.


البعض يريد جر المسلمين في فرنسا إلى نقاشات هامشية تصرف أنظارهم عن القضايا المصيرية وفي مقدمتها مشاركتهم في الحياة السياسية

وجاءت هذه الزيارة وسط جدل حاد حول إمكانية سن قانون ضد الحجاب في المدارس والإدارات. ولم تحقق هذه الفكرة إجماعا لدى السياسيين، ولن يحسم فيها الرئيس جاك شيراك بسهولة لأنه أشد الناس حرصا على صورة فرنسا لدى الرأي العام العربي والإسلامي، فقد أعلن صاركوزي أن بطاقات الهوية تستوجب استعمال صور شمسية لا تغطي فيها المسلمات رؤوسهن. ومنذ ذلك التصريح، لم يتوقف الجدل حول هذه المسألة.

وآخر قضية انقض عليها الإعلام الفرنسي تدور حول فتاتين اسماهما ليلى وألما. المثير في الأمر هو كون أبيهما محاميا يهوديا يقول عن نفسه إنه ملحد ويعمل في جمعية مناهضة للعنصرية. وزاد الموضوع إثارة دفاعه عن خيارهما باستماتة عندما قررت إدارة الثانوية التي تدرسان فيها طردهما بسبب إصرارهما على ارتداء الحجاب.

وتحولت ليلى وألما إلى فريستين للإعلام الفرنسي وقدمت صحيفة لوفيغارو اليمينية "سبقا" صحفيا عندما كشفت عن تقرير للاستخبارات العامة (تابعة لوزارة الداخلية) يفسر تحجب الفتاتين تفسيرا بوليسيا.

ووجه التقرير إصبع الاتهام لنشط في "اتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا" هو الحسن أمرزوق وتنسب له مسؤولية تحجبهما. فقد كتب التقرير بطريقة مخيفة حقا لأنه يعتبر التحجب عملا مشبوها يقتضي اليقظة والحذر. وراحت الصحف الفرنسية كعادتها تحقق في الأحياء الشعبية التي يكثر فيها المهاجرون وتقرع طبول الحرب على الأصولية وتطارد المحجبات.

الصحافيون الموضوعيون قليلون وغزافييه تارنيزيان العامل في صحيفة "لوموند" هو واحد من هؤلاء، نشر مؤخرا كتابا عنوانه "فرنسا المساجد" يحذر فيه من المغالطات المتعلقة بموضوع الإسلام.

ولكنه تلقى انتقادات وشتائم هذه واحدة منها "ما هذا يا سيد تارنيزيان؟ هل اعتنقت الإسلام للحديث عنه بهذا الحماس؟ لماذا هذه الدعارة الإيديولوجية الإسلامية؟ لا تتحول إلى خادم لقضية ستضع فرنسا تحت الاستعمار الإسلامي الذي بدأ يستولي عليها".

هكذا ينظر العنصريون إلى تنامي المد الإسلامي، وأغرب ما في قضية الحجاب أنها أصبحت ترمز لصراع لا مبرر لوجوده أصلا. هناك من يريد جر المسلمين إلى نقاشات هامشية تصرف أنظارهم عن القضايا المصيرية وعلى رأسها مشاركتهم في الحياة السياسية.
ــــــــــــــــــ
*كاتب جزائري

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.