إثيوبيا.. الريادة في سباق ماراثون الأجواء

الاحتفال بانضمام الخطوط الإثيوبية إلى رابطة النجوم

ياسين الكزباري – إثيوبيا

كينشاسا – أديس أبابا. نقرت الوجهة في محرك البحث أملا في إيجاد رحلة سريعة ومباشرة دون الطواف على عاصمة أو اثنتين. أظهرت النتائج رحلة للخطوط الإثيوبية، ولأن كل ما هو أفريقي مرتبط في أذهاننا بالتخلف، ولأن إثيوبيا بالخصوص، لا نعرف عنها إلا المجاعة التي ضربتها قبل عقدين أو ثلاث، وأودت بأرواح مليون إنسان، ولأن الوصول متأخرا خير من عدم الوصول. فقد أشحت بوجهي عنها باحثا عن خيارات أخرى، لكن الخيارات الأخرى كلها كانت إما متأخرة جدا، أو غالية جدا. فسلمت أمري لله وحجزت على الخطوط الإثيوبية.

ولأني أعلم أن شركات الطيران غير الأفريقية (باستثناءات قليلة) تخصص للوجهات داخل أفريقيا أردأ ما لديها من طائرات، فقد توقعت أن يكون وضع الطائرة الإثيوبية أسوأ، لكني حين صعدت الطائرة فوجئت بأنها كانت بوينغ دريم لاينرز.

كانت شركة بوينغ الأميركية، قد أعلنت قبل بضع سنوات عن طائرتها الأكثر تطورا والأخف وزنا -نظرا لصناعة هيكلها من مواد مركبة- وبالتالي كانت أقل استهلاكا للوقود وبالتالي الأقل كلفة -مع الارتفاع الكبير في أسعار البترول- والأسرع أيضا، وقد سمتها "دريم لاينرز".

ولأن ذلك بالضبط ما كانت تبحث عنه شركات الخطوط الجوية، فقد تسابقت لوضع طلبات شرائها لدى بوينغ، وكانت أولاها الخطوط اليابانية، وهذا مفهوم، لكن المثير هو أن ثاني من طلب "دريم لاينرز"، كان الخطوط الإثيوبية، وقد تسلمتها سنة 2012، وكانت أول شركة خطوط أفريقية تضم إلى أسطولها هذه الطائرة.

مطار بولي الدولي في أديس ابابا (الجزيرة)
مطار بولي الدولي في أديس ابابا (الجزيرة)

وأنا في الطائرة فكرت في أمرين يستحقان الاحترام. الأول، هو أن شركة خطوط أفريقية، تهتم بتطوير أسطولها واقتناء أحدث الطائرات. والثاني، أنها تضع طائرتها الجديدة في خدمة وجهة داخل أفريقيا، بدل أن تحجزها لوجهات أوروبية أو أميركية، بهدف جذب السياح مثلا. وعن هذه النقطة سألت مسؤول العلاقات العامة في الخطوط الإثيوبية السيد هيلي ياكوبا، فأجابني "شركتنا شركة أفريقية، وجزء كبير من أرباحها يأتي من السوق الأفريقية، لذلك فحين استلمنا أول طائرة دريم لاينرز، شغلناها داخل أفريقيا لأنها تستحق أن نقدم لها أفضل ما لدينا".

عندما قرر موسوليني اجتياح إثيوبيا في ثلاثينيات القرن الماضي، توقع أن دولة فقيرة وخارج عصر الصناعة لا يمكنها أن تقاوم. لكن البلاد الضاربة جذورها في أعماق التاريخ، والتي لم يسبق لها أن احتلت من طرف شعب آخر، لم تمهل الإيطاليين سوى أربع سنوات ثم أخرجتهم، وكان ذلك سنة 1941. ثم رأى إمبراطورها المثير للجدل هيلا سيلاسي -الذي استعان بالإنجليز على الإيطاليين- أنه لا يسعه بسط نفوذه على بلاد وعرة التضاريس متباعدة الأطراف كإثيوبيا، إلا بتأمين طائرات. فطلب من الأميركان أن يساعدوه لتأسيس شركة طيران إثيوبية.

بعد مفاوضات عسيرة، وفي 8 سبتمبر/أيلول 1945، في أديس أبابا (أي الزهرة الجديدة) وقع الأميركيون مع حكومة هيلا سيلاسي عقدا لتأسيس شركة الخطوط الإثيوبية، على أن تكون تجارية وخاصة، ويتشكل مجلس إدارتها مناصفة بين الأميركيين والإثيوبيين، على أن يتولى الأميركيون إدارتها وتشغيلها لمدة عشرين سنة. وقال إن الأميركيين اقترحوا بداية مدة ستين سنة، غير أن هيلا سيلاسي أصر على تخفيضها، وكان رغم استبداده وطنيا عنيدا.

وفي مطلع فبراير/شباط 1946، حطت في أديس أبابا خمس طائرات تابعة لشركة الخطوط الإثيوبية، وكانت من طراز "دوغلاس سي 47 قطار السماء" الطائرة عسكرية لكنها عدلت لتستعمل مدنيا.

وبعد ثلاثة أشهر، انطلقت أول رحلة أسبوعية للخطوط الإثيوبية نحو القاهرة مرورا بأسمرة، وأضيفت لها رحلة إلى جيبوتي، تبعتها أخرى إلى عدن. وفي نفس السنة اشترت الشركة خمس طائرات، ثم ثلاثا أخر بعد سنة واحدة، ومع نهاية الأربعينيات، كانت طائرات الخطوط الإثيوبية تصل إلى نيروبي في كينيا، وميناء السودان، وأبعد من ذلك إلى بومباي في الهند. كما كانت تنظم رحلات إلى جدة في موسم الحج. واستمرت الشركة في النمو والاتساع لتكون أول شركة أفريقية تقتني طائرة بوينغ 720 سنة 1962.

هيلا سيلاسي إمبراطور إثيوبيا ومؤسس الخطوط الإثيوبية يلاعب الفهود أمام القصر الملكي في أديس أبابا (الجزيرة)
هيلا سيلاسي إمبراطور إثيوبيا ومؤسس الخطوط الإثيوبية يلاعب الفهود أمام القصر الملكي في أديس أبابا (الجزيرة)

ثم انتهى العقد مع الأميركيين سنة 1966، فأصر هيلا سيلاسي على تجديد العقد لمدة أربع سنوات فقط، على أن يكون نائب المدير العام إثيوبيا، وكذلك كان. وبعد أربع سنوات، أي سنة 1971، جدد العقد لأربع سنوات أخرى، لكن في هذه المرة أصبح المدير العام إثيوبيا، واقتصر دور الأميركيين على الاستشارة فقط.

وفي عام 1974 انقلب الجيش على هيلا سيلاسي، وأعلن قادة الانقلاب قيام نظام حكم شيوعي. وبينما يرجع البعض السبب في انهيار حكم سيلاسي إلى تردي الأوضاع الاقتصادية بسبب أزمة النفط، يرى آخرون أن السبب الحقيقي هو إصراره على إبعاد الأميركيين عن شركة الخطوط الإثيوبية التي كانت دجاجة تبيض ذهبا.

وبعد ثلاثة عقود من الازدهار المستمر، بدأ وضع الشركة التدهور، وعن ذلك يحكي أحد موظفي الشركة المتقاعدين قائلا "كان الانقلابيون متورطين، وكانوا بحاجة لتثبيت أقدامهم، فلجؤوا إلى مؤسسات الدولة، وأخذوا يوظفون المقربين منهم فيها دون مراعاة لإمكاناتها. وكانت الخطوط الإثيوبية من المؤسسات الضحية، حيث تضاعف عدد موظفي الشركة خلال بضع سنوات، وصار الأساس في تولي المناصب هو الولاء للجيش، وصارت الشركة تدار بمنطق سياسي، فبرمجت مثلا رحلات نحو دول شيوعية دون أن يكون هناك أي جدوى اقتصادية، كما أوقفت رحلات نحو وجهات معينة فقط لأنها دول رأسمالية. وعمت الفوضى في الشركة، وصار التأخر عن مواعيد الرحلات وإلغائها وضياع أمتعة الناس أمورا عادية".

وحين أدرك الحاكمون أن استمرار هذا الوضع سيؤدي لا محالة إلى انهيار الشركة، قرروا إسناد عملية إنقاذها إلى أحد رجالها الأكفاء. وكان هذا الشخص هو القائد محمد أحمد، الذي اشترط لكي يتحمل المسؤولية أن تتم إدارة الشركة على أساس قانون السوق بعيدا عن أي تدخل حكومي. ووافقت الحكومة، فكان أول إجراء قام به هو التخلي عن 10% من موظفي الشركة.

ومنذ أواسط الثمانينيات إلى أواسط التسعينيات، لم يعرف عدد موظفي الشركة أية زيادة، لكن مع بداية الألفية الثالثة، بدأت الشركة التوسع، حيث وصل عدد موظفيها إلى 5500 سنة 2010، ثم 7500 سنة 2013، ثم حوالي 9000 سنة 2015.

دوغلاس سي-47،أول طائرة حصلت عليها الخطوط الإثيوبية، رابضة في المتحف الشركة المفتوح للزيارة (الجزيرة)
دوغلاس سي-47،أول طائرة حصلت عليها الخطوط الإثيوبية، رابضة في المتحف الشركة المفتوح للزيارة (الجزيرة)

وخلال هذه الفترة، طورت الشركة أسطولها ليصل إلى 122 طائرة، متفوقا بذلك على خطوط دول أفريقية أفضل اقتصاديا من إثيوبيا، كجنوب أفريقيا ومصر ودول المغرب العربي، كما تغطي أكثر من تسعين وجهة، وهي متفوقة في ما يخص الوجهات الأفريقية على أي شركة أخرى.

وفي سنة 2010 صنفت الشركة أفضل شركة أفريقية من حيث جني الأرباح، كما حققت معدل نمو مستقر للسنوات السبع الأخيرة، تراوح بين 20% و30%، وانضمت إلى رابطة النجوم التي تضم الخطوط الجوية الرائدة عالميا، وصنفت سادسة خطوط جوية من حيث الثقة.

حين سألت السيد هيلي ياكوبا عن سر هذا النجاح، قال "لقد وثقنا في قدرتنا كأفارقة، ووثقنا في قدرات قارتنا، واستثمرنا فيها، واليوم هذا النمو الذي تعرفه شركتنا، ليس سوى انعكاس للنمو الذي تعرفه أفريقيا".

وفي سعيها لتطوير البنى التحتية لمجال النقل الجوي في أفريقيا، افتتحت الشركة معهدا لتدريب الربابنة والتقنيين بسعة ألف متدرب، كما افتتحت مركزا للصيانة، يقدم خدماته لجل الشركات الأفريقية. وبفضل كل هذه الإنجازات تعتبر اليوم أديس أبابا، الموزع الرئيسي الذي يربط بين أوروبا وآسيا من جهة، وأفريقيا من جهة أخرى.

قبل 2500 سنة، وصف هيرودوت الإثيوبيين قائلا "كانوا يسرعون في سيرهم على الأقدام أكثر من أي قوم"، وكما رأيناهم يتفوقون في سباق المسافات الطويلة، ها نحن نراهم اليوم يتفوقون في سباق مسافات أطول، لكنها هذه المرة في الأجواء.

المصدر : الجزيرة