"نوليود" نيجيريا.. السينما الثانية بعد الهند

في بلد يعاني فيه نصف الشباب من البطالة يعتبر قطاع السينما النيجيرية ثاني مشغل بعد الزراعة

ياسين الكزباري – نيجيريا

في أحد صباحات سنة 1990، وصل موظفو التلفزيون الوطني النيجيري إلى مقر عملهم، ليفاجؤوا بقرار فصل العشرات منهم. كانت البلاد حينها تحت حكم عسكري، فلم يكن واردا أن يسألوا عن سبب طردهم، فضلا عن أن يحتجوا مطالبين بحقوقهم. لكن أحد المطرودين، وهو كينيث نيبيو، قرر أن يحتج على طريقته فأنتج فيلما عنوانه "العيش في العبودية"، ورغم أنه لم يعرض في قاعة سينما، فإنه لاقى نجاحا كبيرا.

لم يكن فيلم كينيث أول فيلم ينتجه رجل نيجيري، إلا أن الناس شاهدوه وكأنهم يشاهدون لأول مرة فيلما نيجيريا. واليوم لا أحد من النيجيريين ينسى كينيث نيبيو أو "العيش في العبودية".

وعن ذلك يحكي محمود علي بالوغون وهو منتج سينمائي نيجيري، فيقول "لم يفهم أصدقاء كينيث ما الذي يدور في رأسه، وحاولوا جاهدين إقناعه بأن التلفزيون ودور السينما لن تعرض فيلمه أبدا، وأنه إن لم يخسر حريته فسيخسر من دون شك ماله. لكن كينيث قال لهم إذا خسرت وطني، فلن يبقى لدي ما أخسره، أما فيلمي فسأبيعه في الشارع كما يباع الموز. وكذلك فعل، وفاجأ الجميع، لأنه حقق ربحا ماديا، كما حقق هدفه الأساسي وهو أن يوصل صوته للناس، وقد أحب الناس فيلمه، لأنهم وجدوا فيه أنفسهم. لقد كان فيلما نيجيريا بالفعل".

في لاغوس أسواق خاصة ببيع أقراص أفلام نوليود النيجيرية (الجزيرة)
في لاغوس أسواق خاصة ببيع أقراص أفلام نوليود النيجيرية (الجزيرة)

وسرعان ما ألهمت تجربة كينيث الفريدة والناجحة رفاقه، فانطلقوا مثله لإنتاج أفلامهم، وعن ذلك يقول محمود بالوغون "لقد كان فيلم كينيث الشرارة التي فجرت السينما النيجيرية، إذ بعد ثلاث سنوات من "العيش في العبودية"، صدرت ثلاثة أفلام سنة 1995، ولاقت هي الأخرى نجاحا كبيرا.

وبعدها فتح باب إنتاج الأفلام على مصراعيه، ففي سنة 1996 أنتجت نيجيريا 177 فيلما، وفي السنة التي تليها 447 فيلما. لقد انفجرت نيجيريا أفلاما، وبدت لاغوس كهوليود تماما، كان الكل يكتب ويصور وينسخ ويوزع، وما أن ينتهي من عد الربح حتى يعود للتصوير مرة أخرى. وفي سنة 2004 كان مجموع الأفلام المنتجة 1000 فيلم".

لكن ارتفاع حجم الإنتاج، لم يرافقه ارتفاع في الجودة، إذ بقيت الأفلام الممتازة معدودة بالنظر إلى الكم الهائل من الأفلام المنتجة، وعن هذا الإشكال يحكي محمود بالوغون "كان المجال مربحا ونشطا جدا، فاستقطب عددا كبيرا من المنتجين الذين لا يفهمون في السينما شيئا، فبدأنا نرى أفلاما تنعدم فيها جميع المعايير، فلا توجد قصة جيدة ولا سيناريو جيد ولا ممثلون جيدون ولا صورة جيدة ولا صوت جيد.
وبدأنا نسمع أن هناك من ينتجون فيلما في ثلاثة أيام، بميزانية خمسة آلاف دولار، وآخرون استغلوا الفراغ القانوني، فأنتجوا أفلاما مبتذلة تقوم على العنف والجرائم والعري وغير ذلك".

ورغم غياب الجودة، فإن الجمهور كان حاضرا دوما، وعن ذلك يقول محمود بالوغون "في نفس الوقت، كنا نرى الناس يقبلون بشدة على الأفلام، فانتشرت عشرات الآلاف من الصالات في الأحياء الشعبية، ولم تكن سوى غرف في بيوت وضعت فيها أجهزة تلفزيون وقارئ أقراص مدمجة، وحصير يفترشه الجمهور الذي في الغالب يكون من الجيران، والمقابل بضع نايرات (1 دولار=200 نايرة).

ملصقان لفيلم كوميدي نسخة بالإنجليزية وأخرى مدبلجة إلى لغة محلية (الجزيرة)
ملصقان لفيلم كوميدي نسخة بالإنجليزية وأخرى مدبلجة إلى لغة محلية (الجزيرة)

في حين كانت قاعات السينما الكبرى تغلق أبوابها الواحدة تلو الأخرى، فرغم ثروات البلاد الهائلة فإن سنوات حكم العسكر أرهقت الاقتصاد، ولا تكاد تتيح للناس كسب دولار أو اثنين في اليوم، وبالتالي فقلة هم من يملكون ثمن تذكرة فيلم كبير في قاعة سينما".

في زيارة لإحدى القنوات المحلية في النيجر، وفي غرفة البث أثارت انتباهي حزمة أقراص مدمجة لأفلام أفريقية باللغة المحلية، ثم أخبرني مسؤول البث -حين سألته- أن تلك أفلام نوليود، وقد استغرب عدم معرفتي بها. إذ في قارة تفتقد بعض دولها لإنتاج سينمائي بغض النظر عن جودته، كان طبيعيا أن تكتسح الأفلام النيجيرية دول الجوار، وتمتد لتصل شهرتها كل القارة.

وفي ضوء الإقبال الكبير على السينما النيجيرية من قبل الأفارقة، أطلقت الحكومة النيجيرية عام 2006 "مشروع نوليود"، وكان هدفها رفع جودة السينما الوطنية، من خلال دعم مادي لمشاريع أفلام للمنتجين النيجيريين، بمبلغ 800 ألف دولار. ولما بدت النتائج إيجابية مع ظهور أفلام غيرت وجه السينما النيجرية كفيلم الرعب "الدمية الحجرية/the figurine" سنة 2009، الذي لاقى نجاحا أسطوريا، أطلقت الحكومة سنة 2010 صندوقا لدعم السينما النيجيرية من خلال تطوير البنية التحتية السينمائية وتدريب العاملين، وإقراض المنتجين لتنفيذ أفلامهم، وكانت قيمة الصندوق هذه المرة 200 مليون دولار.

وأدى دعم الدولة هذا للإنتاج السينمائي إلى ظهور أفلام أيقونية من قبيل "إيجي/Ijy" سنة 2010، و"نصف شمس صفراء/A half yellow sun" سنة 2013، ثم "30 يوما في أطلنطا/30 days in atlanta" سنة 2014، الذي كان أول فيلم في أفريقيا يحقق في دور السينما أرباحا فاقت مليون دولار، كما حقق أرباحا مهمة في السوق الأوروبية والأميركية حيث الإقبال المتزايد للجاليات الأفريقية على السينما النيجيرية.

في سنة 2009 تجاوز عدد الأفلام المنتجة 1800 فيلم، فصنفت اليونسكو السينما النيجيرية "نوليود" ثانية أكبر سينما بعد السينما الهندية "بوليود" من حيث كمية الإنتاج، وفي سنة 2012 قالت مؤسسة أورومونيتور إن معدل نمو الاقتصاد الأفريقي المتوقع لسنة 2013 الذي قدر بـ5.2%، ستلعب فيه الصناعة السينمائية النيجيرية دورا مهما، وبالفعل فقد حققت تلك الصناعة سنة 2013 عائدات بلغت 11 مليار دولار.

إحدى قاعات السينما في العاصمة النيجيرية أبوجا (الجزيرة)
إحدى قاعات السينما في العاصمة النيجيرية أبوجا (الجزيرة)

ورغم أن الميزانية المتوسطة للفيلم النيجيري تساوي ميزانية بضع ثوان من فيلم أميركي، فإن البلاد التي يتجاوز عدد سكانها 170 مليونا وتشمل البطالة فيها نصف القادرين على العمل، تلعب هذه الصناعة فيها دورا اقتصاديا مهما.

وعن ذلك حدثني محمود بالوغون قائلا "بمعدل إنتاج 200 فيلم في الشهر، توظف نوليود اليوم مليوني شخص في نيجيريا لتكون ثاني قطاع يوفر الوظائف للناس بعد الزراعة، كما تخلق وظائف غير مباشرة أكبر من ذلك وتعزز الوظائف في قطاعات عديدة.

وإذا علمنا أن مقابل كل قرص مدمج أصلي ينزل إلى السوق، تباع تسعة أقراص مقرصنة، وأن بعضها ينسخ في الصين ثم يعود ليوزع في أفريقيا، فلك أن تتصور الحجم الحقيقي لهذه الصناعة في نيجيريا وفي باقي البلدان الأفريقية، وكيف سيكون مردودها لو نظمت بشكل جيد".

وحين سألت بالوغون عن الدور الاجتماعي والثقافي لهذه السينما، أجابني "في عام 1972، أصدرت الدولة مرسوما يقضي بتحويل ملكية جميع دور السينما من الأجانب (وكانت مملوكة كلها لهم) إلى النيجيريين، وتقضي برفع نسبة المواد المحلية في الإعلام، وإجراءات كثيرة كان هدفها محاربة الغزو الثقافي الأجنبي للبلاد، لكن تلك الجهود لم تنجح، بينما نجحت في ذلك نوليود، حيث إن نيجيريا اليوم هي الدولة الأفريقية الوحيدة التي تنتج الصور التي تستهلكها، بل وتصدر الفائض للخارج".

ثم أضاف "في سنة 2008 منعت جماعة بوكو حرام تصوير الأفلام في المناطق التي تسيطر عليها، ومنعت بيع الأقراص، لكن الناس كلهم كانوا يحبون مشاهدة الأفلام النيجيرية، فاضطرت إلى إلغاء المنع بضعة أشهر بعد ذلك. والبعض يتساءل، هل يمكن للسينما أن تتغلب على العنف والتطرف؟ نيجيريا تقول لهم :"نعم .. بالتأكيد".

المصدر : الجزيرة