"الفلوكة".. مساكن البؤس على صفحة النيل

الصياد العجوز يشرب الشاي مع زوجته على متن قاربهما أو مسكنهما
الصياد العجوز يشرب الشاي مع زوجته على متن قاربهما أو مسكنهما (الجزيرة)

دعاء عبد اللطيف – القاهرة

مع مرور الوقت، يألف الإنسان معاناته ووضعه المأساوي، ويصبح أي تمرد على ذلك أمرا يستوجب الاندهاش، لكن أسرة المواطن محمد السيد الباشا تعايشت مع مأساة العيش في قارب صيد، وبات خروجها إلى اليابسة هو عين التمرد.

هزات الماء الخفيفة لا تجعل القارب ساكنا، فيتمايل يمينا ويسارا تبعا لوجهة الرياح، وهم يصيرون على ما يصير عليه قاربهم، فهو ليس مجرد "فلوكة" للصيد أو النزهة، إنه قارب للحياة، وعليهم تحمل تقلباته كما يتحمل هو حياتهم.

والسكن في قارب صيد يشبه المستحيل، لكن المستحيل هو الممكن الوحيد لدى أسرة المواطن المصري محمد الباشا، ومئات الأسر الأخرى، التي تتخذ من مركب خشبي صغير بيتا ومحلا للعمل بصيد السمك النيلي.

ولا ينشغل محمد الباشا -ذو الستين عاما- بتحديد تاريخ توديعه اليابسة واتخاذ مياه النيل سكنا له، فما فيه بات واقعا لا يحتاج للتأريخ، لكن كل ذكرياته تؤكد أنه سكن النهر قبل خمسين عاما، أي وهو في عامه العاشر بسبب عدم امتلاك أسرته ثمن مسكن على يابسة القاهرة الواسعة.

عائلة تتناول إفطارها في قاربها الذي تعيش فيه  (رويترز)
عائلة تتناول إفطارها في قاربها الذي تعيش فيه  (رويترز)

الباشا الذي لم ينل من ترف الحياة سوى لقبه (الباشا لقب كان يناله الأعيان وكبار الدولة قبل قيام ثورة 1952 بمصر) تزوج السيدة فوقية التي تزحف لإتمام عقدها السادس من العمر، لتشاركه سكن الماء طيلة أربعين عاما.

"أنا مع زوجي على الحلوة والمرة". هكذا تلخص الزوجة رحلة زواجها، ويؤكد الباشا حديث زوجته قائلا "تحملت ظروفي ولم تشتكي يوما".

وللرجل الستيني ثلاثة أولاد وبنت، لكنه يعيش في القارب حاليا مع الزوجة والابنة فقط، فقد هاجر ولدان إلى اليابسة بعد زواجهما قبل خمسة أعوام، أما الابن الثالث فيعمل في ورشة للنجارة ويبيت بها ليلا.

والعيش في قارب يجبر أسرة الباشا على تبسيط احتياجاتهم الحياتية، فمطبخ السيدة فوقية عبارة عن موقد صغير وأربع أكواب زجاجية وإناءين للطهي وبعض الصحون وملاعق صدئة الأطراف.

أما خزائن الملابس فتلخصها الأسرة في كيس بلاستيكي يحتوى على القليل من قطع الملابس، وأثناء النوم تُفرش بطانية أسفل النائمين ويكون عليهم غطاءان.

الأحفاد يولدون ويقضون شطرا كبيرا من حياتهم على ظهر الفلوكة (الجزيرة)
الأحفاد يولدون ويقضون شطرا كبيرا من حياتهم على ظهر الفلوكة (الجزيرة)

أما الدخل اليومي لقارب الأسرة فيتراوح بين عشرين وثلاثين جنيها يوميا (بين ثلاثة وأربعة دولارات) تبعا لما يجود به النيل من أسماك، "وفي أيام كثيرة لا يجود بأي شيء"، وفق تأكيد الصياد العجوز.

وبعدما يفرغ الباشا من صيده يتجه إلى مرسى أسفل كوبري الجلاء (وسط القاهرة)، ليمر عليه أحد المشترين ويشتري غلة النيل من الصيد، ثم يبيعها المشتري -بدوره- في سوق الجيزة.

والأسرة المائية ترى أن دخلها اليومي جيد مقارنة بأحوال أسر مصرية أخرى لا تجد قاربا تسكن فيه أو عشرين جنيها يوميا تكفيها سؤال الناس، وتقول الزوجة "لا نمد أيدينا لأحد وهذه نعمة".

ويمسك الزوج طرف الحديث من زوجته لافتا إلى أنه يدفع ألفي جنيه سنويا (حوالي 250 دولارا) إيجارا لمرسى المركب.

وفي محاولة لتحسين دخل الأسرة، صبغ الباشا مركبه قبل شهرين بألوان زاهية لجذب المتنزهين لقاربه للقيام برحلات نيلية، لكن المحاولة فشلت. ويفسر العجوز ذلك بأن "الأمر لم يكن بتلك السهولة، فأصحاب المراكب المتخصصة في الرحلات النيلية خيروه بين دفع إتاوة أو عدم السماح له بالإبحار".

عدد من قوارب الفلوكة في منطقة القناطر الخيرية (غيتي)
عدد من قوارب الفلوكة في منطقة القناطر الخيرية (غيتي)

وأوجاع السكن في الماء كثيرة، بدءا من الحياة المباحة لأعين المارة والنوم المهتز بسبب تقلبات مياه النيل، مرورا بالاغتسال والاستحمام بحمامات المساجد، وانتهاءً ببرد الشتاء فهو معاناة لا تبددها ثلاثة أغطية تمتلكها أسرة الباشا.

أما الخوص المنتصب على شاطئ مرسى المركب فيذكر الباشا بفاجعته من سكن النيل، وهو تلصص ما وصفهم بالبلطجية على ابنته ذات الـ16 عاما عندما تغير ملابسها خلف خوص المرسى.

وعبر عن مأساته بكلمات متلعثمة "الشيب أضعف صحتي ولا مقدرة لي على إبعاد هؤلاء البلطجية عن ابنتي".

ورغم كل ما بأسرة الباشا، فإنها دائمة الابتسام، عدا حفيديها محمد ويمنى اللذين لا يتجاوزان أربع سنوات، فهما صامتان حتى حينما يلعبان، كأنهما يدركان تفاصيل مآسي السكن في قارب ألواحه الخشبية على وشك التشقق.

ويبدو الباشا حياديا تجاه التقلبات السياسية الساخنة التي تشهدها مصر، فهو ترك اليابسة لأهلها ليعيش فوق ماء بارد، فيقول "لا أشغل بالي بالسياسة ما دامت لا تضرني ولا تنفعني".

 

تستعمل الفلوكة في قضاء أيام الإجازات والسياحة في نهر النيل (رويترز)
تستعمل الفلوكة في قضاء أيام الإجازات والسياحة في نهر النيل (رويترز)

والمرة الوحيدة التي أحس بخطر سياسة اليابسة على حياته كانت يوم 28 يناير 2011، ويوضح العجوز أن مظاهرات حاشدة مرت يومها فوق كوبري الجلاء حيث كانت مركبه ترسو، وأطلق رجال الشرطة الرصاص على المتظاهرين، ثم أشعل المحتجون النيران في سيارات الأمن المركزي.

ويكمل "شعرت بالخطر خاصة أن طلقات طائشة اقتربت من المركب فتركنا المركب واحتمينا بخوص المرسى يوما كاملا".

ويبدو أنه لا يشغل باله حتى بالأمور التي تهدد حياته المائية، فلم يؤثر غرق خمسمائة طن فوسفات -يحتوى على يورانيوم مشع- بمياه النيل قبل نحو شهر، في المسيرة المائية للأسرة، "طول عمر النيل متحمل بلاوي تُرمى بمياهه كالصرف الصحي ومخلفات المصانع والقمامة"، هكذا يبسط العجوز الأمر.

وكل ما يتمناه الصياد العجوز هو زيارة بيت الله الحرام مع زوجته، لكن "أمثالنا" (يقصد العامة) لا أحد يهتم بحياتهم أو أمنياتهم إلا لالتقاط صور مع أسرته المائية، أما بؤسه وحلمه فلا يظهران في كادر الصور، لذا لا ينشغل بهم أحد.

المصدر : الجزيرة