معاناة عمال المياومة بمصر بين نار الصيف وشح الدخل

A baker collects bread at a bakery in Cairo, Egypt March 9, 2017. Picture taken March 9, 2017. REUTERS/Mohamed Abd El Ghany
عمال المخابز في مصر يعانون من حر الصيف اللاهب وتدني الأجرة اليومية (رويترز)
منذ قرابة عشرين عاما يقف علي عبد الله (40 عاما) أمام ألسنة اللهب يلتقط أرغفة الخبز من داخل الفرن، ويرتبها بسرعة لافتة على طاولة مصنوعة من سعف النخيل، ليجني نهاية اليوم ما لا يزيد على مئة جنيه (نحو خمسة دولارات) مقابل ما يلاقيه من حر النار وقيظ الصيف داخل المخبز.

درجتان من سلم متهالك بأحد شوارع محافظة الجيزة (غرب القاهرة) تأخذك إلى الأسفل، حيث مقر الفرن الذي يعمل فيه عبد الله منذ أن جاء من مسقط رأسه محافظة المنيا إلى العاصمة بحثا عن عمل. حيث يرص أرغفة الخبز الخارجة من نار زاد حرها مع فصل الصيف، وموجات الحرارة المرتفعة في مصر.

ويؤكد عبد الله أن الخبازين العاملين في حوالي 25 ألف مخبز في مصر لا يعرفون أوقاتا للراحة المرضية "فمن يقعده المرض يوفر صاحب المخبز خبازا غيره، وربما لا يجد مكانه متاحا بعد تعافيه".

يبدأ زملاء عبد الله عملهم في الخامسة صباحا بعجن الطحين وتجهيزه، في حين يسخن هو الفرن حتى يبدأ عمله في السابعة، على أن ينتهي يومهم في الثالثة عصرا.

ويعمل بعضهم وقتا إضافيا في الفرن نفسه أو فرن آخر ليستطيع توفير نفقات المنزل في ظل أوضاع اقتصادية متردية، في بلد يتجاوز عدد سكانه 93 مليون نسمة، وفق إحصائيات الحكومة.

معظم العاملين في المخابز بمصر يتقاضون أجرة يومية يحرمون منها إن تغيبوا عن العمل
معظم العاملين في المخابز بمصر يتقاضون أجرة يومية يحرمون منها إن تغيبوا عن العمل

لا عمل آخر
يتنهد الشاب الأربعيني بعد أن كست وجهه موجة من التجهم، ليبدأ في سرد معاناته مع مهنته التي اضطرته مصاعب الحياة إلى العمل فيها.

يقول عبد الله إن "العمل يتحول إلى قطعة من الجحيم في شهور الصيف، فيصبح الخبازون بين نارين، وعليهم استخلاص أرزاقهم من قلب اللهب". ويعبر الرجل عن سخطه عن عمله الذي لا يعطيه مقابلا ماديا يكفي أسرته، ولا توجد فيه أي ضمانات للسلامة. ويضيف "فكرت أن أترك العمل أكثر من مرة، لكن لا بديل".

في كل مرة يفكر فيها عبد الله في تغيير مهنته تظهر في مخيلته أسرته المكونة من خمسة أفراد (أربعة أبناء في مراحل تعليمية مختلفة وزوجة) يقيمون في قريته بالمنيا، وينتظرونه كل شهر أو شهرين بمال يكفي بالكاد، وأحيانا يقترض من صاحب المخبز، وخاصة مع اقتراب المدارس والأعياد، حيث تزيد النفقات.

ويضيف بحزن "لا يمكن أن أغير عملي، فأنا لا أجيد غيره، لكن نطلب أن تضعنا الحكومة ضمن أولوياتها، فأنا أتقاضى أجرا بين سبعين ومئة جنيه (حوالي أربعة إلى خمسة دولارات) يوميا وفق إنتاجية الفرن".

ويؤكد أن أجرة العمال في المخابز يكون غالبا بـاليومية (أجر يومي) فلا يوجد راتب شهري ولا تأمينات اجتماعية ولا صحية "فبدون عمل لا مال، والإجازة غير مدفوعة الأجر، ومن يمرض هنا يموت أو ينقله ذووه إلى مستشفى قريب، فلا يعبأ به أصحاب العمل، إلا ما رحم من أصحاب المخابز".

يحاول الخباز الشاب ورفاقه التعايش مع ألسنة اللهب اليومية، عبر تناول كميات أكبر من المياه والمشروبات، كالعصائر وغيرها، ويفضلون ألا تكون باردة أكثر من اللازم، حتى لا تؤثر عليهم سلبا.

حرارة الصيف العالية في مصر تزيد من معاناة العاملين بالمخابز
حرارة الصيف العالية في مصر تزيد من معاناة العاملين بالمخابز

مخاطر الصنعة
يلتقط طرف الحديث زميله سلامة فؤاد، وهو يعمل في عجن الخبز منذ عام 1990، ووقتها كان مراهقا لا يتعدى عمره 15 عاما حين ذهب مع والده لتعلم "الصنعة" ومساعدة أسرته التي تعيش في حي بولاق الدكرور الشعبي بمحافظة الجيزة.

يحكي فؤاد عما يحدثه ارتفاع الحرارة، قائلا "من الوارد أن يتعرض أحدنا لـهبوط حاد في الدورة الدموية، ووقتها يسرع من بجواره إلى إبعاده عن مكان الفرن، ويتولى آخر إتمام عمله، حتى يتعافى ويعود إلى العمل".

ولا تقتصر مخاطر العمل أمام ألسنة اللهب على نوبات الهبوط المتكررة -وفق فتحي مسعد مدير مستشفى حميات العباسية (حكومية) وسط القاهرة- إذ يقول إنه "من الوارد أن يتعرض العمال الذين يقضون فترات طويلة أمام النيران لالتهابات متكررة بالشعب الهوائية بسبب تغيير الجو فجأة من شدة الحرارة إلى الوضع الطبيعي في حال خروجهم إلى الشارع، فضلا عن أمراض حساسية الصدر بسبب العادم القادم من الأفران".

ويضيف مسعد أن "بعض العمال يتعرضون للتليف الرئوي، وعليهم تهوية المكان جيدا، والانتظار قليلا بعد الانتهاء من العمل قبل الخروج إلى الشارع، إضافة إلى تناول السوائل بشكل متكرر".

لكن الخبازين عادة لا يأخذون بنصائح الأطباء ولا خبراء الأرصاد الجوية، وفق مدحت شناوي (33 عاما-فران) حيث يقول "كله على ربنا. هو كوب شاي أو كوب من عصير القصب نطفئ به نار الحرارة التي يشعلها الفرن بأجسادنا، أو الماء، ثم نخرج دقائق لالتقاط أنفاسنا بعيدا عن حرارة الفرن العالية".

وعادة ما تشهد القاهرة في الصيف ارتفاع درجة الحرارة إلى أكثر من أربعين درجة مئوية، وهو ما ينتج عنه وفيات أحيانا، وكان أشدها عام 2015 عندما أعلنت وزارة الصحة وفاة 42 شخصا، في وقت أعلنت حالة وفاة واحدة حتى الآن عام 2017.

العمالة غير المنتظمة في ورشات الحدادة تعاني من ظروف عمل صعبة وأجرة متدنية
العمالة غير المنتظمة في ورشات الحدادة تعاني من ظروف عمل صعبة وأجرة متدنية

الموت جوعا
المعاناة نفسها يكابدها العاملون في ورش تقطيع ولحام الحديد بمصر "فلا يحصلون إلا على يوم وحيد كعطلة أسبوعية، وعادة تكون يوم الأحد" وفق ما يقول سعيد مبارك (45 عاما) وهو عامل في إحدى الورش بمنطقة "بين السرايات" في الجيزة.

يشتكي مبارك من "تدني الأجور مقابل ارتفاع الأسعار الذي فاق كل الاحتمالات". وهو قلق من مستقبل مظلم في عمل يعتمد على قوته "لو ضعفت قوتي سيكون مصيري الموت من الجوع، لعدم وجود راتب تقاعد ولا تأمينات اجتماعية تضمن لي حياة كريمة عند الشيخوخة أو مصاريف لأبنائي في حال موتي".

ويقول أيضا إن "الأوضاع المعيشية في السابق كانت أفضل بكثير، فأنا حاليا مجبر على عدم شراء سلع كنت أشتريها لأسرتي. الآن أشتري الضروريات فقط".

ويضيف العامل "منذ سبع سنوات كان أجري اليومي لا تتجاوز 35 جنيها (حوالي دولارين) وكانت تكفي وتزيد، أما الآن، ورغم أن اليومية أصبحت أكبر ثلاث مرات وأكثر، فإنها لم تعد تكفي مواصلات ومصاريف منزل وعلاجا ودراسة".

مشاكل عمال المخابز والحدادين في مصر نموذج للأزمات التي تعانيها العمالة غير المنتظمة، والتي تمثل -وفق محمد عبد القادر مؤسس نقابة العمال غير المنتظمين (غير حكومية تأسست عقب ثورة يناير/كانون الثاني 2011)- "حوالي 60% من القوى العاملة في مصر" والمقدرة بنحو 27 مليون عامل، وفق إحصاء رسمي.

ويضيف عبد القادر أنه "لا يوجد إحصاء رسمي بعدد العمال غير المنتظمين أو من يسمون بعمال اليومية في مصر، وهم يعانون من غياب التشريعات المنظمة لعملهم، ومحرومون من حقوقهم التي تكفلها الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالعمل والتي وقعت عليها مصر، فلا يوجد تأمينات صحية ولا اجتماعية خاصة بهم".

ووفق إحصائية رسمية للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2016 فإن 27.8% من السكان في مصر فقراء، ولا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الأساسية.

المصدر : وكالة الأناضول