توالد العولمة: التحولات والممانعة

خدمة كمبردج بوك ريفيو
ينظر جيمس ميتلمان, بروفيسور العلاقات الدولية في الجامعة الأميركية في واشنطن, إلى العولمة كمصفوفة من العمليات المتداخلة والمرتبطة ببعضها, وليس كعملية أحادية تدور بشكل مركزي حول الاقتصاد المعولم، وانتقال تطبيقات السوق الحر إلى مرحلة غير مسبوقة جغرافيا وعملياتيا.

فالبعد السياسي في العولمة لا يقل بحال عن البعد الاقتصادي, بل إن عملية إطلاق "السوق الحر" في الكثير من البلدان التي قضت عقوداً وهي تسير اقتصاداتها وفق نظرية التخطيط المركزي للعملية الاقتصادية لم تتم إلا بتدخل قوي من الدولة لم يخل من فجاجة وقسر في عدد من الأحيان. وهذا ينطوي على مغزى كبير ومفارق, فالأبجدية الأولية وراء فكرة السوق الحر تقول بضرورة انسحاب الدولة إلى خارج الفضاء الاقتصادي، وتترك لقوى السوق حرية الاشتغال على تشكيل أنماط التبادلات الاقتصادية.

وتدخل الدولة بقوة لفرض السوق الحر -في مجتمعات لا تملك قطاعات خاصة، أو شركات، أو بنى تحتية متدرجة النمو، تكون استجابتها لبيئة السوق الحر موضوعية، وغير مسيرة بعوامل خارجة عن المنطق الاقتصادي- يؤدي إلى اختلالات وتشوهات تكون هي النتيجة البديلة عن الاختلالات والتشوهات التي أنتجتها العقود الطويلة من الاعتماد على سياسات التخطيط المركزي للاقتصاد.


undefined


– اسم الكتاب: توالد العولمة: التحولات والممانعة
– المؤلف: جيمس ميتلمان
– عدد الصفحات: 286
الطبعة: الأولى 2000
الناشر: مطبعة جامعة برينستون- نيويورك

ويظهر المكون السياسي في العولمة بشكل أبرز عند تحليل علاقة العولمة بتشكل المجتمع المدني, كما يتبدى من تحليل ميتلمان العميق في الفصول الخاصة بذلك. فهنا ينقض ميتلمان إحدى أكبر المسلمات الملازمة لنظريات السوق الحر، وانتشارها في مناطق العالم, ألا وهي تلازم نشوء مجتمع مدني فاعل, بل وتسارع في الـ "دمقرطة", مع تبلور السوق الحر وترسخه.

وكما يلاحظ ميتلمان فإن هذا الربط قسري وغير صحيح. فمن ناحية نظرية يفترض أنصار السوق الحر أن من أهم وظائف المجتمع المدني الوليد في المجتمعات التي تعبر مراحل انتقالية من التخطيط الشمولي إلى الرأسمالية هي ضمان حدوث هذا الانتقال و"الدفاع" عن أفكار السوق الحر، حتى تصير الواقع الاقتصادي والسياسي الجديد.

لكن واقع الانتقال الذي شهدته عدة اقتصادات ومجتمعات في العالم يشير إلى أن مكونات ومنظمات المجتمع المدني التي نشأت في أعقاب اختفاء الحكومات الشمولية تبنت مواقف عدائية تجاه السوق الحر، نظرا للانعكاسات المباشرة لعمليات التسريع في التطبيق على الشرائح الاجتماعية متوسطة الدخل والفقيرة.

وصار المجتمع المدني حارسا يدافع عن المجتمع ضد السوق الحر والعولمة بدل أن يكون نصيرا لهما أو ممهدا للطريق أمام عملياتهما. والنماذج الأبرز في هذا السياق, كما يشير منظرون آخرون للعولمة مثل جون غري وفرد هاليدي في كتابات أخرى, هي روسيا وأندونيسيا وبولندا وعدد من دول أوروبا الشرقية.


المجتمعات العربية تخلو من المنظمات المدنية المهمومة بالتطورات التي تحدثها العولمة أو الآثار الناتجة عن عولمة الاقتصادات العربية على الطبقات الفقيرة, أو العمال, أو الصناعة المحلية, بما يتيح للنخب الحاكمة أو المستفيدة من التعولم الاعتباطي الحادث الآن أن تمرر الكثير من السياسات الانتقالية وفرضها دون مراقبة مدنية لصيقة تضمن مصالح وحقوق الشرائح المجتمعية المتعددة.

ويستطيع المرء أن يشير أيضا إلى عدائية كثير من منظمات المجتمع المدني الغربية, وخاصة في الولايات المتحدة, للعولمة، وخاصة المنظمات العمالية، واتحادات الشغل التي تراقب أثر عولمة الاقتصاد على معدلات أجور العمال، وعلى نسبة البطالة في الغرب. لكن ومن زاوية نظر عربية يلاحظ أن المجتمعات العربية تخلو من المنظمات المدنية المهمومة بالتطورات التي تحدثها العولمة، أو الآثار الناتجة عن عولمة الاقتصادات العربية على الطبقات الفقيرة, أو العمال, أو الصناعة المحلية, مما يتيح للنخب الحاكمة أو المستفيدة من التعولم الاعتباطي الحادث الآن أن تمرر الكثير من السياسات الانتقالية، وفرضها دون مراقبة مدنية لصيقة تضمن مصالح وحقوق الشرائح المجتمعية المتعددة. فالأجندة المسيسة في العالم العربي للمثقفين والمتابعين وللأحزاب السياسية تأخذ موقفا أيديولوجيا معاديا للعولمة بشكل عام, لكن هذا الموقف غير مدني ولا ينعكس على المجتمع على شكل منظمات اجتماعية غير مسيسة ومهتمة بالتطبيقات العملية غير الأيديولوجية.

وبالعودة إلى كتاب ميتلمان فإن ما هو جوهري ومرافق للتحولات التي تتم في عمليات العولمة على نطاق العالم هو مظاهر وحركات الممانعة والمقاومة لها, سواء المباشرة أم غير المباشرة, وسواء العقلانية منها والمتطرفة.

وتظهر إحدى أهم تجليات المقاومة في نمط انتشار الإقليمية, أو الأقلمة, الذي برز خلال العقدين الأخيرين، سواء في آسيا حيث تجمع آسيان الاقتصادي, أم في أميركا اللاتينية حيث تجمع ميركسور, أم في أميركا الشمالية حيث تجمع النافتا, وطبعاً مع وجود المثال الأبرز والأنجع على الأقلمة وهو مثال الاتحاد الأوروبي.

وعلى الجانب المتطرف فإن مظاهر المقاومة ضد العولمة الاقتصادية سيطرت على نشرات الأخبار الرئيسية عدة مرات خلال السنوات الماضية، بدءاً من سياتل عام 1998 حيث اجتماعات الألفية لمنظمة التجارة العالمية, ومروراً بواشنطن عام 1999 حيث اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي, ثم مرة أخرى في براغ في العام المنصرم، حيث عقد الاجتماع السنوي لمنظمة التجارة العالمية, الذي سوف يعقد في قطر هذا العام.

ما يميز كتاب ميتلمان عن غيره من الكتب الكثيرة عن العولمة هو اعتماده على دراسات ومشاهدات مباشرة عاينها المؤلف في دول العالم النامي أو الآسيوي بسبب طبيعة عمله الأكاديمي، سواء كمحاضر، أم باحث قضى عدة سنوات متجولا فيها، ومراقبا للتحولات وردود الفعل فيها تجاه التغييرات العولمية. ومن هنا فإن الأمثلة في الكتاب والاستشهادات وكذا التحليل يصطبغ بسمة حيّة هي نتيجة المشاهدة العيانية وليس التنظير المجرد.

إضافة إلى ذلك فإن ميتلمان يعطي حيزاً كافياً للجانب الثقافي في العولمة مشيراً إلى تأثير وطأة العولمة على الهويات المحلية، وبالتالي ردود الفعل. ليس هذا فحسب, بل إن تعقيد إشكالية الهوية يأخذ أبعادا حادة عند معالجة أثر العولمة على تفعيل الهجرات العمالية من الجنوب إلى الشمال، وتكون الجاليات في أوروربا. فمثلا يلاحظ ميتلمان كيف كانت ردود وانعكاسات اليمين الفرنسي على صعود نجم لاعب الكرة زين الدين زيدان, الجزائري الأصل, ضمن الفريق الوطني الفرنسي، وهي ردود سلبية حيث اعتبر اليمين أن الفريق الفرنسي ضم في تشكيلته عددا أكبر من اللازم من الفرنسيين "غير مكتملي الفرنسية" (ص 71). وفي الوقت نفسه كان الجزائريون سواء في فرنسا أم الجزائر يضجون بالفرح والتأييد لزيدان باعتباره بطلا جزائريا رغم أنه فرنسي المولد والإقامة.


يلاحظ المؤلف أن الإسلام يمثل واحداً من القوى المقاومة لموجة العولمة المرتبطة بالسياسة الغربية وخاصة السياسة الخارجية للولايات المتحدة. ويتفق المؤلف مع كثيرين في أن العولمة تنطوي على إمكانات الإضرار بالأديان وإفادتها في الوقت نفسه
وهذا المثال يشير إلى معضلة أعمق متعلقة بالوجود الإسلامي في القارة الأوروبية -الذي يتراوح حول الخمسة عشر مليوناً, منهم خمسة ملايين في فرنسا وحدها- فهنا تتعقد إشكالات الهوية في ظل العولمة, فمن جهة تتزايد موجات العنصرية ضد الجاليات المسلمة, ومن جهة تتزايد نزعات التطرف الديني في أوساط هذه الجاليات كردود فعل من ناحية، وكإعادة اكتشاف للدين على أنه مستودع لهوية مهددة. وعلى وجه العموم يلاحظ المؤلف, في مكان آخر (ص 136) أن الإسلام يمثل واحداً من القوى المقاومة لموجة العولمة المرتبطة بالسياسة الغربية وخاصة السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
 
ويتفق المؤلف كذلك -في غير نقاش حول العولمة والدين- مع كثيرين في أن العولمة تنطوي على إمكانات الإضرار بالأديان وإفادتها في الوقت نفسه. فمن ناحية تقوم العولمة -خاصة في جانبها الإعلامي، والثقافي، وترويج الأنماط الاستهلاكية، والتحلل من القيم- بتحدي المنظومات الدينية والأخلاقية، وإضعاف إقبال الأجيال الجديدة عليها. لكن ومن ناحية ثانية فإن نفس هذه المنظومات الدينية تعتبر من أكبر المنتفعين من العولمة، لا سيما من جهة استثمار وسائل الاتصال الحديثة، وتوظيفها لترويج رسالتها الدينية التبشيرية.

والملاحظ أنه رغم كل تأثيرات الإعلام الغربي والأميركي -خاصة في نشر وتكريس نمط الثقافة الأميركية في العالم عبر الفضائيات، والأنترنت، والأفلام، والمجلات، وغير ذلك- فإن الأديان والدعوات الأخلاقية المضادة للثقافة الاستهلاكية ما تزال تكسب أنصارا جددا في غير مكان في العالم، وفي الولايات المتحدة في المقام الأول. وهذا يؤكد مرة أخرى على تلازم التحولات العولمية مع ازدياد تحولات الممانعة والمقاومة لها.

المصدر : غير معروف