تناقضات المهاتيرية.. سيرة فكرية لمهاتير محمد

عرض/ كامبردج بوك ريفيو
عند النظرة الأولى، يمكن لعنوان مثل "تناقضات المهاتيرية" أن يقود القارئ إلى الافتراض بأن هذا الكتاب ليس سوى هجوم سياسي آخر على الدكتور مهاتير محمد الزعيم الماليزي المهيمن على الساحة السياسية في ماليزيا.



undefined-اسم الكتاب: تناقضات المهاتيرية .. سيرة فكرية لمهاتير محمد
–المؤلف: خو بو تيك
-عدد الصفحات: 375
الناشر: أوكسفورد يونيفيرسيتي بريس

الواقع أن الدكتور مهاتير قد أنفق في قمة السلطة زمنا يكفي لكسب الكثير من الأصدقاء والأعداء معا. فقد توج حياته السياسية اللامعة التي امتدت 40 عاما بالتربع على رئاسة الحكومة على مدى 22 عاما، كان خلالها السياسي المندفع والزعيم المتصدي للخصوم والقائد المقارع.

لكن هذا الانطباع سرعان ما يبدده العنوان الفرعي للكتاب "سيرة فكرية لمهاتير محمد" وهو العنوان الذي جاء موافقا لطبيعة الكتاب، حيث يصعب على المرء أن يجد سيرة أكثر وضوحا ونفاذا من هذه السيرة التي عكست بكفاءة نادرة المثال، الأبعاد المختلفة لشخصية هذا الزعيم ذات الجوانب المتعددة، إذ يجمع مهاتير محمد في شخصه الطبيب، والرأسمالي الاشتراكي، والسياسي المحلي، ورجل الدولة المحنك، والملاوي القومي، والناطق المفوه بلسان العالم الثالث.

وبالنظر لكونه ماليزيا هو الآخر، فإن المؤلف خو بو تيك يمتلك خلفية غنية من المعرفة بالأمور ذات العلاقة بالشخصية المحورية التي يدور حولها كتابه، بالإضافة إلى استيعابه العميق للثقافة المحلية وللقضايا التي تغني تحليله المنهجي لمواقف مهاتير وأفكاره.

ويزداد تقدير القارئ لهذه الدراسة المستفيضة كلما تقدم في قراءة الكتاب، وكلما توسعت دائرة معرفته بأيديولوجية الدكتور مهاتير وشخصيته ومواقفه السياسية من خلال البحث الدؤوب الذي اضطلع به المؤلف.

وإذ يضع المؤلف "تناقضات المهاتيرية" ضمن إطارها التاريخي والاجتماعي، فإنه يتيح بذلك للقارئ التمييز بين التقلبات السطحية في الأسلوب والخطاب لهذا السياسي الذي يلج الردهات المختلفة ويستجيب للأحوال المتغيرة، وبين التأملات الأبعد غورا في صميم الضغوط والتوترات المتناحرة التي تعمل على صياغة وتشكيل الأيديولوجية الكلية للسياسي البارز.

حيث يظهر لنا أن الأولى ليست سوى فن الممكن عندما يوضع موضع التطبيق، في حين أن الثانية هي جوهر الرؤية المركبة التي ينظر بها السياسي إلى العالم من حوله. وتعنى هذه السيرة التي وضعها تيك بالجانب الثاني من شخصية الدكتور مهاتير وتنصرف إلى استجلاء التناقضات الأساسية في وجهات نظره في محاولة من المؤلف لحل كل واحدة من تلك التناقضات على حدة.

أيديولوجيته السياسية وطبيعة رؤيته للعالم


تعريف المهاتيرية تبعا لعناصرها الأولية هي القومية والرأسمالية والإسلام والشعبية والسلطوية

من أجل تحليل الأيديولوجية السياسية التي حملها الدكتور مهاتير وطبيعة رؤيته للعالم لا بد للمرء أن يبدأ بنوع من الإطار العام الذي يقدم التفسير المنهجي للأفكار التي قادت خطوات هذا الرجل. ويحقق المؤلف هذه الغاية عن طريق تعريف "المهاتيرية" تبعا لعناصرها الأولية وهي: القومية، والرأسمالية، والإسلام، والشعبية، والسلطوية.

وفي سعيه إلى إدراج كل واحدة من تناقضات الدكتور مهاتير ومن ثم التصدي لحلها، يجد المؤلف أن كلا من تلك التناقضات غالبا ما تحتوي على أكثر من عنصر واحد من هذه العناصر. ومن باب المفارقة أن يحتاج المؤلف إلى الغوص عميقا في ثوابت فكر مهاتير من أجل أن يستخرج إلى السطح جذور التناقض في ذلك الفكر. وعبر تتبعه للمسار الارتقائي للأيديولوجية المهاتيرية يتيح لنا الكتاب إلقاء نظرة ثاقبة على الإرث الذي صاغ الدوافع والاقتناعات المبكرة لهذا السياسي المميز.

لكن كتاب "تناقضات المهاتيرية" ليس مجرد سيرة لحياة رئيس الوزراء الماليزي، إذ يمكن اعتباره عن جدارة أطروحة عن المجتمع الماليزي والسياسة الماليزية.

فالمهاتيرية، في واقع الأمر أيديولوجية سياسية واستجابة شخصية لنداء العصر في آن معا. إذ لا يمكن لأي سيرة شخصية للدكتور مهاتير أن تكون كاملة بدون البحث في العلاقة الحميمة بين السياسة من جهة وأجواء العلاقات الإثنية والقضايا الدينية التي تحكم المجتمع الماليزي من الجهة الأخرى. فعند الأخذ بنظر الاعتبار التعددية الثقافية لماليزيا التي لا يشكل أبناؤها الملاويون الأصليون إلا نصف عدد سكانها، لا يبدو غريبا أن تتمحور السياسة الماليزية حول الأحزاب ذات القاعدة الإثنية. ولا يسع القارئ المعني بالاطلاع على الشؤون العالمية إلا أن يشعر بالامتنان لما يقدمه له المؤلف من فرصة للاطلاع على خفايا المجتمع الماليزي إلى جانب الاطلاع على خفايا السياسة المهاتيرية.

الزعيم ذو الرؤية الخاصة والخارج على الأعراف


يبرز مهاتير زعيما ذا رؤية خاصة وثائرا خارجا في أسلوبه وجوهره على الأعراف السياسية والثقافية الماليزية

في هذه السيرة يبرز الدكتور مهاتير محمد زعيما ذا رؤية خاصة، وثائرا خارجا في أسلوبه وجوهره على الأعراف السياسية والثقافية الماليزية. اكتسب الدكتور مهاتير نوعا من الصيت السيء نتيجة مجابهته لتونكو عبد الرحمن، أول رئيس وزراء ماليزي، عندما أعلن مهاتير مسؤولية عبد الرحمن عن أحداث الشغب العرقية التي عمت البلاد عام 1969. وقد زاد الطين بلة القرار الصادر بطرد مهاتير من الحزب لعدم التزامه بالضوابط الحزبية.

في فترة ضياعه السياسي، وضع مهاتير كتابه الذي حمل عنوان "المعضلة الملاوية"، وهو دراسة للمشاكل التي تواجه المجتمع الملاوي حاول من خلالها تأكيد ضرورة إدخال الملاويين إلى القطاعات الاقتصادية التي تسيطر عليها مصالح المهاجرين الصينيين. وقد حظر تداول الكتاب لما تميز به من صراحة في معالجة العلاقات الإثنية وتحليل للثقافة الملاوية، ولم يرفع الحظر عنه إلا بعد مجيء الدكتور مهاتير إلى الحكم عام 1981.

لكن الدكتور مهاتير رغم حدة مشاعره الوطنية التي أكسبته لقب "الملاوي الفائق"، لم ينحدر إلى مستوى الاشتراكي الفج الذي يلعب دور روبن هود الذي ينتزع ثروة الصينيين الأغنياء ليمكن منها الملاويين الفقراء. فقد كان دافعه الأول هو تأمين مصلحة الملاويين المحرومين اقتصاديا، عن طريق الاستفادة من الشعبية التي تتمتع بها مواقفه السياسية بين صفوفهم والعمل في الوقت نفسه على تجنب استعداء الأعراق الأخرى المتعايشة في ماليزيا. وبوسع القارئ أن يتفهم الأسباب التي تبرر انصراف الدكتور مهاتير عن بعض المواقف السياسية التي يعتمدها لفترات معينة عندما يقف على رؤيته الخاصة للثبات عند موقف واحد الذي يعتبره عرضا مرضيا وليس مدعاة للفخر كما يراه البعض.

الوجه المحاجج بالإسلام
ترى كيف يتمكن المرء من المواءمة بين الدوافع المادية التي تقف وراء السياسات المهاتيرية والعقائد الدينية للملاويين المسلمين؟ يعرض المؤلف هنا وجها آخر من وجوه مهاتير هو الوجه المحاجج الذي يجادل بأن الإسلام "لم يدع أبدا إلى التخلي عن الثروات الدنيوية". وقد دأب مهاتير على تمجيد فضائل العمل معتبرا إياها ضربا من التقوى الدينية. وكان في الوقت نفسه يشن الحملات الضارية على الدعوات الظلامية التي يصنف بموجبها نفر معين من الماليزيين التعليم الغربي على أنه أمر "علماني".

ومن هنا لا يبدو من المستغرب أن ينعت تدين الدكتور مهاتير بأنه "تدين حسب المقاس الخاص". ويشكل الفصل الخاص بهذا الجانب من سيرة الدكتور مهاتير والذي يحمل عنوان "نداء الإسلام" جزءا مثيرا من الكتاب من حيث وجوه الشبه العديدة التي تشترك بها التجربة الماليزية مع الكثير من الصراعات والتعقيدات الدينية التي تواجهها اليوم مجتمعات إسلامية مختلفة حول العالم.

كان تيك قد انتهى من وضع هذا الكتاب قبل اندلاع الأزمة الآسيوية عام 97-1998 وقبل حادثة عزل نائب رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم وزجّه في السجن. ولم يراجع المؤلف الكتاب بهدف إضافة قسم يتعلق بمعالجة الدكتور مهاتير لتينك الأزمتين.

فقد كان رئيس الوزراء الماليزي عند ذاك قد أظهر من الملامح السلوكية المتميزة ما يكفي للتنبؤ بالكيفية التي كان سيواجه بها الأزمتين التوأمين، السياسية والاقتصادية، اللتين لم تكونا منفصلتين تماما عن بعضهما.

كان الدكتور مهاتير قد أدار ظهره للانتقادات المتعلقة بطوفان من الفضائح المالية التي أثيرت في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، واشتهر بقوميته المعلنة وبمواقفه الانفعالية إزاء الغرب التي كانت بعيدة كل البعد عن الدبلوماسية، كما خاض معركة ضارية ضد التحدي الذي مثلته طائفة خارجة عن طوعه في صفوف الحزب الذي يرأسه أثناء التنافس الانتخابي الداخلي في الحزب عام 1987.


عالج الأزمة الاقتصادية بفرض قيود مالية خلافا للأعراف الاقتصادية السائدة واختار للأزمة السياسية عزل نائبه على الرغم من الإدانة الواسعة التي قوبل بها ذلك الإجراء على الصعيدين الداخلي والخارجي

وبناء على كل ذلك كان بوسع المرء أن يتكهن بنوع المعالجة التي ستصدر عنه وهي ما قام به بالفعل عندما عالج الأزمة الاقتصادية بفرض قيود مالية خلافا للأعراف الاقتصادية السائدة، واختار للأزمة السياسية عزل نائبه على الرغم من الإدانة الواسعة التي قوبل بها ذلك الإجراء على الصعيدين الداخلي والخارجي.

ومن المقرر أن يتقاعد الدكتور مهاتير من منصبه كرئيس للوزراء في شهر أكتوبر/ تشرين الأول من هذا العام بعد 22 عاما قضاها على قمة هرم السلطة في بلاده. لكن تقاعده لا يمكن أن يعني نهاية المرحلة المهاتيرية. فالرؤية المستقبلية التي رسمها لماليزيا وأطلق عليها اسم "رؤية 2020" تتنبأ بتحول ماليزيا إلى دولة متقدمة بحلول العام المذكور. والكثير من مواقف الدكتور مهاتير السياسية ستحتفظ بتأثيرها على المجتمع الماليزي فترة طويلة بعد غيابه عن المشهد السياسي.

أما كتاب "تناقضات المهاتيرية" فسوف يظل كتابا ممتعا وجديرا بالقراءة ليس لما ضمه من سرد مستفيض لسيرة الدكتور مهاتير محمد فحسب وإنما لما احتواه من تحليل بارع للمهاتيرية وإلمام واسع بطبيعة المجتمع الماليزي. وإلى جانب قيمته التاريخية سيظل هذا الكتاب مهما لكل من يسعى إلى الإحاطة بالتوترات الخفية التي تلعب دورها في رسم ملامح السياسة الماليزية.

المصدر : غير معروف