تاريخ القراءة

عرض/ إبراهيم غرايبة
ألفت الكتب وأعدت لتقرأ، ولكن مئات الملايين من الكتب التي صدرت شغلت بكل شيء تقريبا إلا القراءة كفعل ومهارة وهواية ومرض وتقاليد وأسرار، ويبدو كتاب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل طريفا ونادر الاهتمام وشيقا أيضا، وبخاصة لأولئك الذين يتمتعون أو يعانون من هواية القراءة وهوس الكتب.


undefined– اسم الكتاب:
تاريخ القراءة
– المؤلف:
ألبرتو مانغويل
– ترجمة: سامي شمعون
– عدد الصفحات: 308
– الطبعة: الأولى 2001
الناشر: دار الساقي.

يعرض الكتاب تاريخ القراء الذين أظهروا شغفهم بالكتب على مر العصور، والذين انتشلوا الكتب من طي النسيان وجمعوا درر الأدب، فهو تاريخ انتصاراتهم الصغيرة وآلامهم المحجوبة عن الأنظار، وأخبار من حياة أناس عاديين عاش بعضهم في أماكن قصية وأزمنة بعيدة.

إن تاريخ القراءة لا نهاية له في الواقع وهو ما يمكننا جميعا أن نسهم فيه ونضيف إليه، بدءا من جمع الكتب واقتنائها، وانتهاء بالقراءة الممنوعة، مرورا بعشق الكتب والقراءة، وتصميم الكتب وتجليدها وحفظها، وسرقة الكتب واستعارتها، والقراءة خلف الجدران وفي السجون أو في أجنحة الحريم، وغير ذلك الكثير من الصور، والطباعة والتغليف والأحاديث والصالونات، فتاريخ القراءة عملية مستمرة دون توقف، ولكل قارئ منا قصته وأسراره.


القراءة عملية بصرية مصحوبة بالتأمل والخيال والتدبر

الكتابة أساسا للقراءة
بدأت الكتابة في سوريا والعراق كما تدل أقدم آثار معروفة للكتابة، وكان السومريون في العراق أول من أعد ألواحا من الصلصال ينقشون عليها رموزا ومقاطع وصورا تعبر عن الحقائق والأفكار التي تحتاج إلى تسجيل.

وكانت القراءة عملية بصرية مصحوبة بالتأمل والخيال والتدبر، وهكذا فالعين والبصر أصبحا مدخل الإنسان إلى العالم وليس الأذن والسماع، وتصبح الأشياء المرئية هي الجوهر، ونشأ علم البصريات لفهم وتحليل عملية القراءة والنظر والضوء والظلال وعلاقتها بالعين والدماغ، وبدأت الفكرة (يقيدنا الكتاب بتسلسل مفروض ليس هو الواقع بالضرورة) بتفسير يوناني مؤداه أن الآلهة أفرديت حبست النار في أغشية وأقمشة رقيقة وحافظت على المياه العميقة المنسابة حولها ولكنها تركت لهيب النار الداخلي يندلع نحو الخارج.

ولكن حدث تحول جذري وجوهري بعد 1700 سنة عندما قدم الحسن بن الهيثم في مصر تفسيرا علميا هو الأقرب إلى الصواب أو ما يعتقده العلماء صوابا حتى اليوم، وقد ترجم كتاب ابن الهيثم إلى اللاتينية بعد مائتي سنة من كتابته، ونشأت بعد وفاة ابن الهيثم بـ850 سنة بحوث الأعصاب اللغوية التي تقدم لنا أن جسم الأنسان هو في وضع يمكنه من إجراء فعل القراءة والكتابة، وكان الإنسان كذلك حتى قبل نشوء علم الكتابة (وربما ينطبق هذا مع الآية القرآنية عن قصة الخلق "وعلم آدم للأسماء كلها").

الفاني الذي يصنع الخلود
"ربما وجد الإنسان الذي يعاني من الفناء ويتطلع إلى الخلود حيلة في "القراءة" تجعله خالدا، فهو يقرأ الماضي ويطلع عليه ويقدم فكره وتجربته لمن بعده ليبقى حيا" وقد لا يتفق هذا التقدير مع رؤية المؤلف للقراءة فعلا إنسانيا عميقا مستمدا من الحب والعلم والشغف بالحقيقة وربما التصوف، فكان القديسون يقرؤون بصمت كأنما يقرؤون بقلوبهم، وكانت القراءة الصامتة الشائعة اليوم تحولا في تاريخ القراءة ولم تكن البداية، ويحب الغرب نسبتها إلى القديس أمبروسيوس في القرن الرابع الميلادي، ولكن في التاريخ أيضا أن الاسكندر الأكبر قرأ في القرن الرابع قبل الميلاد رسالة وردت إليه بصمت مما جعل جنوده يتعجبون، ومن المؤكد على أي حال أن القراءة بصوت مسموع كانت شائعة أو هي القاعدة المعتمدة.


لم يجد المؤلف في مئات المراجع التي استخدمها شيئا عن الكتب والمكتبات والمدارس في الدول الإسلامية منذ القرن السابع الميلادي

ويجد المؤلف في قراءة القرآن وعلومه الكثير مما يمكن أن يضعه في تاريخ القراءة وإن لم يستوعب جيدا أو لم يشغل نفسه بفهم القضية المشهورة التي سجن بسببها الإمام أحمد بن حنبل وعذب وهي أن القرآن كلام الله وليس خلق الله كما كان يعتقد الحكام المعتزلة، ولكنه التقط مقولة أن القرآن هل هو كلام الله الذي أوحاه إلى النبي محمد أم هو ما تقرؤه الأعين والألسنة الكثيرة؟ ويشير إلى آداب قراءة القرآن التي ذكرها الغزالي.

ويتذكر الإنسان ما يقرأ ويحفظه وهو في ذلك ربما تدفعه أشواق الخلود والبقاء، وكان بعض الناس قادرين على حفظ ما يقرؤونه لمرة واحدة، وكان الحفظ من الحيل التي يلتف بها "فدائيو العلم" على ندرة الكتب أو منعها فتتحول الكتب إلى جزء من كيان الإنسان يستحيل نزعه.

والذاكرة أيضا تجمع ما كتبه الناس وتختزنه لتقديمه إلى الأجيال اللاحقة، وكان الطبيب الروماني آنتيلوس من القرن الثاني يعتقد أن من لا يحفظ الأشعار عن ظهر قلب وإنما يرجع إلى الكتب لا يستطيع التخلص من العصارات السامة الموجودة في جسمه إلا بمجهود كبير وبواسطة تعرق فوق العادة في حين أن الناس المتمرنين على التخزين في الذاكرة يطردون هذه العصارات السامة عبر الزفير.


الكلمة قوة يدركها الطغاة أكثر من المستضغفين ويدركون أيضا أن الجماهير الأمية تكون سهلة الانقياد، فكانت عمليات حرق الكتب وحظرها والرقابة عليها وكانت الرقابة على الكتب وما زالت رديفا للحكم

تعلم القراءة
القراءة بصوت مرتفع والقراءة بصمت والقدرة على تخزين المفردات، كل هذه قدرات مدهشة تعلمناها بطريقة لا يمكن تفسيرها، ويعتبر تعلم القراءة في كل المجتمعات نوعا من المبادرة في مباشرة العمل ومرحلة انتقال حافلة بالطقوس من الاتكالية والمواصلة البدائية إلى ما هو أرفع وأسمى، فتعلم القراءة يفسح المجال أمام الطفل للدخول إلى قلب الجماعة، ويصبح مطلعا على تراث الماضي المشترك.

وكانت القراءة والكتابة في المجتمع المسيحي مقصورتين على أبناء الطبقة الأرستقراطية، وإن كان في المقابل بعض الأرستقراطيين ينظرون إلى القراءة والكتابة باعتبارها مهنة مشينة لرجال الدين الفقراء، وعندما ازدهرت المدن في القرن العاشر أنشئت المؤسسات التي تقدم المعارف الأساسية، ولم يكن اقتناء الكتب متاحا إلا لفئة قليلة من التلاميذ.

كانت مهمة العالم وكذلك المعلم تتحدد عند البحث عن المعرفة داخل عقائد وقواعد معينة ونظم التعليم، أما المعلم فكان يشغل منصبا عموميا، وكان عليه أن يضع النصوص ومعانيها المختلفة تحت تصرف أكبر عدد من الناس وأن يقدم تاريخا اجتماعيا مشتركا لجميع الأمور السياسية والفلسفية والعقائدية.

ولم يجد المؤلف في مئات المراجع التي استخدمها ولا في أثناء السنوات السبع التي قضاها يعد كتابه شيئا عن الكتب والمكتبات والمدارس في الدول الإسلامية منذ القرن السابع الميلادي ولا حتى في الأندلس التي يفترض أن أجداده قد عاشوا فيها وتعلموا في مدارس العرب وقرؤوا كتبهم.

قراءة الصور
كان الوقوف أمام الصور والتماثيل وما زال جزءا من العبادات والطقوس، ومن الأشعار المسيحية القديمة "أنا امرأة فقيرة ومسنة، لا أعرف شيئا، ولم أقرأ رسائل، وأرى في كنيسة الدير فردوسا مرسوما مع قيثارة وعود، والجحيم محرقة الخطاة، أحدهما أفرحني والآخر أرعبني".

ولكن الابتهال أمام صورة أمر مختلف عن استحضار الأفكار والحكايات بمعونة الصور، وكانت الأناجيل حتى ظهور الطباعة كتبا مصورة مليئة بالمشاهد وتسمى أناجيل الفقراء لأنهم عادة لا يقرؤون، وكانت هذه الأناجيل مثبتة بسلسلة في منضدة تلاوة الكتاب المقدس في الكنائس، وكان الوعاظ يعتمدون على الصورة وهم يقصون بإطناب الحكايات الإنجيلية.

ويمكن أن نضيف إلى حكايات المؤلف وأمثلته فن الكاريكاتير الذي انتشر وازدهر للتعبير بالرسم والصورة عما تعجز الكلمات عن تقديمه وحيلة على الحكام والرقباء وللإفلات من العقوبة لتعدد القراءات والتفاسير.

القراءة على الآخرين
يستمتع الأطفال (والكبار أيضا) بقراءة القصص وروايتها وتعتبر هذه العادة جزءا تقليديا من تنشئة الأطفال وحفظ التراث، والاستماع هو المدخل الأول للتعليم ولذلك فإن الذين لا يسمعون لا يتعلمون ويمكن للمكفوفين أن يكونوا علماء وعباقرة.

استخدمت القراءة على العمال في كوبا في القرن التاسع عشر لتلافي معضلة الأمية المتفشية وكان يعين أحد العمال قارئا يتلقى أجرا من العمال الآخرين مقابل قراءة الصحف والكتب لهم. وكان الاستماع يعين العمال على مواجهة الروتين والبلادة ويعلمهم أشياء إضافية، وظهر أيضا القراء المتجولون للنصوص والأغاني الذين كانوا يطوفون في أنحاء البلاد.

وفي بلاط النبلاء كانت الكتب تقرأ بصوت مرتفع على أفراد العائلة وأصدقائهم للترفيه ولإلقاء التعليمات، وكانت الماركيزة ماهوت تسافر وبصحبتها مكتبتها، وفي الأمسيات كانت إحدى وصيفاتها تقرأ عليها وعلى أصدقائها كتبا تختارها في الأدب والفلسفة، وكانت قراءة الكتب والنصوص على المستمعين خلال لقاءاتهم العادية من الأمور المتعارف عليها في القرن السابع عشر، وكان الفلاحون والعمال يتجمعون في الحانات في المساء بعد العمل ويستمعون إلى قارئ يتلو قصصا عن البطولات الخارقة للفرسان الشجعان والملوك أنصاف الآلهة من الأسلاف.


القراءة لا تقدم دوما ثراء داخليا، فالعملية نفسها التي تملأ نصا بالحياة، وتستخلص منه ما يوحي به وتضاعف تنوع معانيه، وتعكس فيه الماضي والحاضر وطاقة المستقبل، يمكن أيضا أن تستخدم من أجل تشويش النص والقضاء عليه

القراءة الممنوعة
كان مالكو الرقيق في أميركا يرفضون حتى مجرد التفكير في شعب أسود متعلم ويرون في ذلك مصدرا للخطر على مصالحهم وباعثا على التمرد، وحتى قراءة الإنجيل كانت ممنوعة على السود، وكان هذا الحظر يشمل الأحرار السود أيضا وليس فقط العبيد، وكانت القراءة وتعليمها تعتير جريمة يعاقب عليها القانون وإذا تكررت فقد يعدم المعلم الأسود.

وكان تعلم القراءة وتعليمها عمليات سرية ومعقدة وخطرة يقوم بها السود في أماكن سرية أو بطرق ملتوية مثل سرقة الكتب وحفظ النصوص ثم البحث عن رموزها في الكتب المسروقة، أو إبداء الإعجاب بالسادة الأطفال لتشجيعهم على إلقاء النصوص التي تعلموها والتظاهر بمرافقتهم للتعلم منهم وسرقة كتبهم، كانت قصصا تنم عن مغامرة وشجاعة وذكاء واستنتاج وتخمين واستفزاز غرائز التعلم التي أودعها الله في الإنسان.

إن الكلمة قوة يدركها الطغاة أكثر من المستضغفين ويدركون أيضا أن الجماهير الأمية تكون سهلة الانقياد، فكانت عمليات حرق الكتب وحظرها والرقابة عليها وكانت الرقابة على الكتب وما زالت رديفا للحكم.

وفي القرن الخامس قبل الميلاد أحرقت كتب بروتاغودراس في أثينا، وفي القرن الثالث قبل الميلاد أمر الإمبراطور الصيني شيهوانغ تي بإحراق جميع الكتب في البلاد وكان يشرف على عمليات الإعدام هذه ويتابعها بنفسه، وفي منتصف القرن التاسع عشر أسس كومستوك جمعية لملاحقة الكتب التي تشجع على الرذيلة بمقياسه ومفهومه وناشريها، وقد نجح في دفع الحكومة إلى اعتقال العشرات من المؤلفين والمثقفين وقد انتحر 15 منهم على الأقل في السجون وأتلفت مئات الأطنان من الكتب، وكان من أقوال كومستوك إن العالم سيكون أفضل لو لم تكن ثمة قراءة.

ولم يسمع المؤلف كما يبدو عن مئات الآلاف من الكتب التي أحرقها المغول أو ألقوها في نهر دجلة عندما احتلوا بغداد ومئات الآلاف من الكتب والقطع الأثرية التي سرقها الصليبيون ثم الأوروبيون المستعمرون.

وهكذا فإن القراءة لا تقدم دوما ثراء داخليا، فالعملية نفسها التي تملأ نصا بالحياة، وتستخلص منه ما يوحي به وتضاعف تنوع معانيه، وتعكس فيه الماضي والحاضر وطاقة المستقبل، يمكن أيضا أن تستخدم من أجل تشويش النص والقضاء عليه، فكل قارئ من القراء يحقق لنفسه طريقة قراءته الخاصة به التي تنحرف أحيانا عن النية الأصلية للنص لكنها لا تمثل بالضرورة تزويرا، غير أن القارئ يستطيع تزوير النص عن قصد إن أراد عند وضعه في خدمة عقيدة معينة وإساءة استعماله في تبرير الاعتباطية والغبن والعنف وإن كان ذلك للمحافظة على منافع شخصية أو لإضفاء الشرعية على النظم الدكتاتورية أو الرق.

المصدر : غير معروف