المدينة والسلطة في الإسلام

عرض/ شفيق شقير*

الكتاب في الأصل دراسة مقدمة لنيل درجة الدكتوراه، وتتوزع على ثلاثة مجالات علمية هي التاريخ والعمارة والفقه. ويترك المؤلف للقارئ الخيار في أن يبدأ القراءة حسب رغبته أو تخصصه من أي جزء أو فصل شاء، غير أن الفكرة العامة -كما يقول- لا تكتمل إلا بالإلمام الشامل بأجزاء الدراسة وفصولها.


undefined-اسم الكتاب: المدينة والسلطة في الإسلام
–المؤلف: الدكتور مصطفى أحمد بن حموش
-عدد الصفحات: 320
-الطبعة:
الأولى 1999
الناشر: مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي

أسس ومفاهيم أولية
ويهدف هذا الجزء الذي استهلك أربعة فصول من الكتاب، أن يقدم توطئة نظرية يقوم عليها الكتاب بمجمله، تفترض على الطريقة الخلدونية وجود ارتباط تبعي واطرادي بين شكل العمران وطبيعة السلطة في الإسلام، وذلك من منظور تاريخي وفقهي، وذلك حسبما يرى ابن خلدون الذي عنون الفصل الثالث والأربعين من كتابه المقدمة بأن "الظلم مؤذن بخراب العمران"، أي أن العدل أساس لازدهار العمران والظلم بسوء استعمال السلطة مؤذن بخرابه.

وأخضع للدراسة الثنائيات الناتجة عن العناصر الثلاثة، العمران والسلطان والإسلام، انطلاقا من أن العمران وظيفة بشرية لا تخص مجتمعا دون آخر، وأن المسلمين سكنوا مدنا تأسست في عهود سابقة على دخولهم إليها، ولم يأمروا بهدمها غير أنهم حرصوا على إيجاد مكان للصلوات الجامعة وإقامة العدل وإزالة مظاهر الشرك فيها.

وانتهى بذلك إلى أن العلاقة بين الإسلام والعمران ليست علاقة تلازمية بحيث نقول بوجود (مدن إسلامية)، إنما من قبيل التجاوز نعرف ما يسمى "العمران الإسلامي" بأنه ذلك المحيط الذي يستجيب للمقاصد العامة للشريعة ولا يتصادم مع أحكامها المفصلة.. وأوجز العلاقة بين السلطان والإسلام بمفهوم الخلافة التقليدي في التاريخ الإسلامي، أما العلاقة بين العمران والسلطان فقد أعطاها الصورة الكاملة من خلال أدوار كل من الولاية الخاصة، والولاية العامة، والولاية الجماعية.

والولاية بملاحظة التداخل بين الملكية والولاية، هي الحق الذي يمكن صاحب الولاية من التصرف بالشيء. وقسمها المؤلف إلى خاصة كتصرف الشخص بملكه كبناء داره، وعامة بيد السلطة مثل إقامة المشاريع الضخمة وتخطيط المدن، وجماعية غير عامة مثل المباني الجماعية والأوقاف الأهلية. وكل من هذه الأقسام يمتاز بطراز عمراني خاص يتماهى مع طبيعة المجتمع وأعرافه ومع الاعتقاد الديني ومذاهبه ونوع السلطة وحجم سلطانها.

السلطة المحلية والإدارة اليومية
ويتابع هذا الجزء صورا من الاجتماع البشري بقراءة النموذج العثماني بالمغرب الأوسط من الفترة الممتدة من 1516 إلى 1830، وهي العينة المرشحة للدراسة في هذا الكتاب. ويقوم بتحليل العلاقة اليومية للإدارة المحلية ما بين المدينة والسلطة، فيسلط الضوء على بيت المال ومؤسسات الأحباس (الأوقاف) وطريقة إدارتها للعقارات، ودورها الاجتماعي ومساهمتها في إدارة المدينة وتوفير الخدمات والمرافق العامة، وكفالة الفقراء والمساكين، إضافة إلى تغطية تكاليف الماء والتعليم وغير ذلك.

واللافت في هذا الجزء تعرضه للميراث في الإسلام، وأن أثره كان سلبيا على العقارات لكونه كان يؤدي إلى تفتيتها بحسب المستشرق Brugman وينقل عن Hey Worth Dunn أن الميراث هو العدو الأساسي لأي محاولة لتوزيع الأراضي، ولم يعلق المؤلف كثيرا على هذه الأقوال لأنه يستهدف من إيرادها بيان أثر الميراث على هندسة المدينة فقط، مع الإشارة إلى أن الكاتب نوه في المقدمة إلى أنه قد ترد بعض الآراء التي تلمز الإدارة العثمانية وشعوب المنطقة نتيجة لغلبة المراجع الأجنبية في دراسته لأنه أعدها في باريس.

ويعرض المؤلف المناصب والوظائف الثانوية للإدارة المحلية، مثل شيخ البلد الأشبه بحاكم البلدية والذي يقوم -فضلا عن وظيفة الحسبة- برعاية الخدمات العامة كممثل للسلطة. كما يتناول أثر التوزع الطائفي والعرقي والحرفي على شكل الأحياء السكنية في مدينة الجزائر، ويستنتج من الوثائق أن الاستقلال الزائد لسكان الأحياء في تدبير شؤونهم، كان يؤثر على نوعية الفضاء الحضري حيث كانت تتقدم البنايات على حساب الشوارع إلى حد أن بعضها كان أنفاقا مظلمة.

ويخصص الفصل الأخير من الجزء الثاني للحديث عن طوائف الحرفيين وشكل أسواقهم وأسلوب إدارتها، وطريقة تسيير شؤونهم والتي حظيت بنوع من الاستقلال فكان لهم القضاء الخاص، والشرطة الخاصة لا بل سجونهم الخاصة، ويخضعون في كل ذلك للأحكام الفقهية الخاصة بالحسبة.

التخطيط الحضري والإقليمي
يمثل التخطيط الحضري والإقليمي أعلى مستويات الارتباط بين السلطة والمدينة، وكان للدولة العثمانية تجربة في هذا الميدان في ضوء الإطار التشريعي الإسلامي العام.

فيعرض الفصل التاسع للمسار الإداري للمشاريع الحضرية بغية الإحاطة بأكثر آليات الإدارة الإسلامية في مجال العمران بالعهد العثماني، فقد كانت المبادرة بالمشاريع تتم من الحاكم ولكن استنادا لآراء رجال القضاء والفتوى استجابة لمصلحة شرعية معتبرة، ويقول المؤلف إن أغلب المشاريع التي اطلع عليها عبر الوثائق كانت عسكرية. ويضيف أنه في بعض الحالات تكون المشاريع أشبه بالإعلان عن مناقصة، ومن أمثلة ذلك "مشروع جلب الماء من عين الحامة حيث طلب علي باشا من أهل الخبرة إجراء دراسات على كيفية إيصالها للمدينة". وأثر على نوعية الطراز المعماري المهاجرون الأندلسيون الذين تدفقوا على شمال أفريقيا بعد النكبة وكذلك الأسرى المسيحييون الذين استخدموا في المشاريع العامة، فضلا عن الطراز المشرقي العثماني الذي فرضه حضورهم في أجهزة السلطة.

وينتهي هذا الفصل بخلاصة تؤكد على تكفل السلطة بالمسائل الإستراتيجية والكبرى التي ترتبط بالمدينة ككل، وأن المركزية في الإدارة ساعدت على التنسيق بين مختلف الخدمات، كما أن حضور أهل الخبرة بجانب السلطة كان له أثر في تحديد المشاريع الضرورية لاحتياجات السكان.

وينصب المؤلف في الفصل العاشر ميزانا يقيس فيه نسبة تحرك المدن، ويقول بأن مقابل اختفاء المدن والقرى الأندلسية في إسبانيا، كانت تنشأ مدن وقرى في الضفة الأخرى من البحر، حتى إن أغلب المدن في المغرب يعود الفضل في إنشائها إلى أهل الأندلس، فقد كان سكان المغرب الأصليون آنذاك يفضلون الخيمة والريف على المدينة، ولعب العثمانيون دورا حاسما في توطين اللاجئين الأندلسيين وإعانتهم على الاندماج في الإقليم الجديد، من منطلق ديني وإعمالا للمصلحة العامة في أعلى مستوياتها وهي حفظ الدين ورعاية الأمة.

ويقترب الجزء الثالث -من الكتاب- أكثر من مدينة الجزائر ونموها، ويلاحق بعض تفاصيل هذه المدينة التي كانت صغيرة إلى حد أن الرحالة لم يذكروها إلا نادرا، وأصبحت في ما بعد في العهد العثماني إحدى المدن العربية الكبرى، حيث ازداد عدد سكانها وكبرت مساحتها وتحولت إلى نموذج يمكن قراءة السياسة العمرانية العثمانية فيها، ولهذا كانت هذه المدينة إحدى المحاور الأساسية في الكتاب بمجمله.

ثم يلتفت المؤلف إلى إنشاء المدن كإحدى صور تحقيق المصلحة العامة وفق ضوابط الشريعة، فيذكر إنشاء مدينة القليعة، مدينة المهاجرين الأندلسيين، ويفسر اسمها بأنه تصغير كلمة (قلعة)، في دلالة على وظيفتها العسكرية التي أرادها منها مؤسسها الباشا حسن، فقد كانت ركيزة في المنطقة لمواجهة القبائل البربرية بجبال شنوة.

ويذكر بتفصيل أكبر ظروف نشأة مدينة البليدة بمبادرة أقرب إلى الفردية، وكيف تعرضت للزلزال المدمر وأعيد بناؤها بشروط مختلفة. أما عن نشوئها فقد كانت البليدة ثمرة تحالف بين السلطة الروحية والسلطة العسكرية، فالأولى يمثلها الشيخ الولي سيدي أحمد الكبير الذي تعاطف مع المهاجرين الأندلسيين وسعى لإعانتهم فأنشأ لهم مستوطنة على قطعة أرض ما لبثت أن تحولت إلى مدينة. أما السلطة العسكرية فقد أخذت دورها بزيارة خير الدين باشا للشيخ أحمد الذي سأل الباشا مساعدة المدينة، فكان أن استجاب الباشا من فوره فبني مسجدا وحماما وفرنا. وجمعت المدينة بعد ذلك بين وظيفة العسكر بقيام الثكنات فيها والاستجمام حيث كثرت فيها بساتين البرتقال.

وفي عام 1824 أتى زلزال على المدينة كليا، فأعاد يحيى آغا المكلف بشؤون المدينة المنكوبة بناءها في موقع أسفل الموقع القديم بما يضمن وصول الماء إليها، وتذكر الوثائق أنه لم يؤخذ رأي أهلها في هذا المشروع مما أدى إلى نهاية مأساوية له، حيث أفسدت الأمطار ما بدأ به من البناء مما اضطر الأغا لإيقاف العمل ولم يتمه.

إن الهدف الرئيسي للدراسة -إدراك الترابط بين المدينة والسلطة- استدعى حشد معلومات مكثفة أسهمت في إبراز الآليات التي تربط بين المدينة والسلطة، فنجد الحضور الفقهي العميق في الدراسة ولكن كآلية ومحفز عمراني واجتماعي، وكنص منشئ لواقع ومتفاعل معه. ونجد الفن المعماري ركنا أساسيا أيضا، ولكن بصورة حية تنفعل بالاجتماع البشري وتمارس فعلها عليه. ووراء ذلك كله نرى المجتمع أفرادا وجماعات يكيف العمران بما يتلاءم مع عاداته ومعتقداته وحاجاته، وتنتصب السلطة في الدراسة كمهندس، قد يكون ناجحا إذا عدل، أو فاشلا إذا ظلم وتعسف.
ـــــــــــــــ
* الجزيرة نت- قسم البحوث والدراسات

المصدر : غير معروف