العقل الأخلاقي العربي

خدمة كامبردج بوك ريفيوز
مثلما يفعل في سائر كتبه الموسوعية والنقدية يقدم الجابري في هذا الكتاب ما يمكن اعتباره أول أطروحة عربية من نوعها في حقل "العقل الأخلاقي العربي" تؤسس لمبحث قديم عانى من إهمال بيّن. والجابري يحدد من الصفحات الأولى في دراسته هذه أنه لا ينطلق فيها مقلداً الدراسات الغربية في علم الأخلاق وعلاقتها بالسياسة, خاصة وقد ازدهر هذا "العلم" واغتنت السجالات الدائرة بشأن تلك العلاقة. وهو يسجل بوضوح أننا "لن نسجن أنفسنا في دائرة المفاهيم والرؤى الحديثة فنضيق أو نوسع من دائرة الأخلاق حسب الاتجاهات الفلسفية والسوسيولوجية والأنثروبولوجية والحقوقية المعاصرة, وبالتالي سنتحرر تماما من هاجسين: هاجس "الرد" على الغربيين, وهاجس "اكتشاف" قيم عصرنا في حضارة أسلافنا" (ص 28).


undefined
اسم الكتاب:
العقل الأخلاقي العربي.
المؤلف:
محمد عابد الجابري.
عدد الصفحات:
640
الطبعة:
الأولى – 2001م
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت- لبنان.

وبهذا المنطلق الواضح فإن الجابري يتجاوز الأدبيات العربية القليلة التي حامت حول هذا الموضوع ولكنها في غالبها كانت مهجوسة بهم الرد على الأفكار الغربية, وبالتالي فإنها تمثلت ما يطرح على أجندة البحث الغربية "الأخلاقية", وظلت بسبب ذلك تقف في منتصف الطريق فلا هي غربية التوجه ولا هي عربية التأصيل.

في هذا الكتاب يربط الجابري أطروحته الجديدة عن "العقل الأخلاقي العربي" بأطروحاته السابقة عن "العقل السياسي العربي", وذلك باعتماده تصنيفات متناظرة. ففي معالجاته السابقة لبنية وتكون العقل السياسي العربي فرق بين أنواع من الأخلاق مثل "أخلاق القبيلة" و"أخلاق الغنيمة" و"أخلاق العقيدة", وكذلك بين "أخلاق الخليفة" و"أخلاق الخاصة" و"أخلاق العامة".

وهنا في هذا الكتاب الجديد لا يرى الجابري مانعاً من اعتماد التصنيف الذي صممه في دراساته النظرية السابقة ليجعل "الأخلاق" في الحضارة العربية والإسلامية ثلاثة: "أخلاق بيانية" و"أخلاق عرفانية" و"أخلاق برهانية" (ص 21). وهو يرى أن هذه الأخلاق تتوزع على أنظمة قيم وليس نظاماً واحداً في هذه الحضارة, ذاك أن عالم القيم هنا إنما هو عوالم وليس عالماً محصوراً. وهذه العوالم التي يراها الجابري تشكل البنية الأساسية للعقل الأخلاقي العربي تتجسد في موروثات خمسة يتخذ كل منها موقعاً مهماً في تلك البنية ويتفاعل مع بقية الموروثات تأثيراً وتنافساً واصطراعاً. وهذه الموروثات هي: الموروث الفارسي (أو أخلاق الطاعة), والموروث اليوناني (أو أخلاق السعادة), والموروث الصوفي (أو أخلاق الفناء وفناء الأخلاق), والموروث العربي الخالص (أخلاق المروءة), والموروث الإسلامي الخالص (أخلاق الإسلام).


العقل الأخلاقي العربي هو عقل متعدد في تكوينه ولكنه واحد في بنيته يعكس تنوع وتعددية الثقافة والحضارة الإسلامية التي استوعبت تأثيرات وإسهامات متعددة المصادر

يرى الجابري أن القيم في كل ثقافة تشكل ليس فقط منظومة أو منظومات, بل هي "نظام" بمعنى "ترتيب" أو سلم". ومعنى ذلك عنده أن القيم في أي ثقافة من الثقافات ليست في مستوى واحد, حيث توجد قيم أساسية تتفرع عنها قيم ثانوية أقل منها مستوى. ويحاول الجابري أن يلتقط في كل "نظام" من نظم القيم المكونة للعقل الأخلاقي العربي "القيمة المركزية" لذلك النظام ويرصد موقعها فيه وترحالها معه عبر القرون, وكيف تفاعلت أو تعايشت أو تصارعت مع "القيم المركزية" التابعة للنظم الأخرى. (وهذه القيم المركزية التابعة لكل نظام من النظم وضعت بين قوسين أعلاه). ومن هنا فالعقل الأخلاقي العربي هو "عقل" متعدد في تكوينه ولكنه واحد في بنيته يعكس تنوع وتعددية الثقافة والحضارة الإسلامية التي استوعبت تأثيرات وإسهامات متعددة المصادر.

غير أن الجابري يطرح استنتاجاً خلافياً مبنياً على هذا التصوير الصحيح لتاريخ تفاعل أو اصطراع أنظمة القيم في الحضارة العربية الإسلامية، فهو يقول إن تزاحم تلك الأنظمة على مسرح الثقافة العربية وتنافسها واحتكاكها وهيمنة بعضها على البعض الآخر قاد إلى حال من "التنافس والصراع بين نظم القيم لا يكاد يهدأ حتى يستيقظ" في المجتمع العربي الذي كان طوال تاريخه وحتى اليوم "مجتمعاً قلقاً على مستوى القيم على الأقل" (ص 22).

ويعرف الجابري هذا القلق متجسداً على شكل "أزمات في القيم" ما تلبث أن تهدأ في ناحية من نواحي الوطن العربي أو حقبة من تاريخه حتى تعود للظهور. ثم يضرب أمثلة على ذلك القلق وأزمات القيم بما عانت منه شخصيات فكرية ذات وزن في التراث العربي والإسلامي من أزمات روحية وفكرية مثل المحاسبي وابن الهيثم وأبي الحسن الأشعري والغزالي. ووجه الخلاف الذي قد تثيره فكرة الجابري هنا تكمن في مدى دقة التعميم الذي يطلقه على تاريخ المجتمع العربي من زاوية ديمومة "قلق القيم وأزماتها" الذي يدلل عليه بوجود أزمات فكرية وروحية عند شريحة ضيقة جداً من النخبة الفكرية المثقفة أو الدينية. فمن المعروف أن "أزمات الفكر والقيم" أكثر ما تضرب في أوساط هذه النخبة, بينما تكون سائر الشرائح الاجتماعية أقل انشغالاً بالتفكير أو عرضة لـ"التأزم القيمي" خاصة عندما يهيمن "نظام قيم" معين أو تتسلم دفة قيادة القيم "قيمة مركزية" بارزة.

ومن الممكن القول هنا إن سيطرة "نظام القيم الإسلامي العربي" على بقية نظم القيم التي يرصدها الجابري كمكونات أصيلة في العقل الأخلاقي العربي, كانت سيطرة بارزة وفككت من "التأزم القيمي" الذي يفترضه الجابري عند الغالبية العامة للعرب. هناك بالتأكيد شريحة "قلقة" تمتد على طول التاريخ العربي الإسلامي, قد يجوز القول بأنها تبدأ بالخوارج, ثم تتواصل حلقاتها في أوساط معينة مثل القرامطة والفلاسفة والمتكلمون والعلماء والشعراء وبعض الخلفاء.. لكن الشيء الأكيد أن سحب هذا "التأزم القيمي" على بقية الناس يبقى محل نظر وخلاف, إن لم يكن خاطئاً بالأساس.

الموروث الكسروي في أنظمة القيم في الحضارة العربية الإسلامية روج لقيم "كسروية", بمعنى أن "كسرى" أو الحاكم أو الخليفة هو القطب الذي تدور حوله بقية القيم، أي بمعنى آخر الطاعة التامة له المفروضة على سائر الأفراد. إنه "كسرى الذي يخدمه الكل ولا يخدم هو أحداً, والذي يجعل من نفسه -عند الحاجة- وسيطاً بين الله والناس" (ص 249). أما بقية الناس فهم يقعون في مرتبة دنيا "سفلة العامة" وطبقات تراتبية تأتي دون مقام كسرى, وهي طبقات لا مكان فيها للفرد كفرد, بل أقرب إلى مفهوم "الطبقات الجيولوجية" كما يراها الجابري, أي التي تضيع فيها ملامح الجزء لصالح الكل.

أما الموروث اليوناني فيراه الجابري ثلاثي الجوانب وتمثل في نزعات ثلاث أو اتجاهات ثلاث: اتجاه طبي علمي, واتجاه فلسفي, واتجاه تلفيقي. وهذا التعدد يقلب -برأي الجابري- رأساً على عقب التصور الذي ظل سائداً في الثقافة العربية ولم يكن يرى في الموروث اليوناني سوى ما أخذه الفلاسفة العرب عن أرسطو وأفلاطون. وفي ظل هذه التأثيرات الثلاثة برزت "أخلاق السعادة" كقيمة مركزية في نظام القيم ذي الأصل اليوناني, وهي أخلاق ينسبها الجابري إلى النزعة التلفيقية حيث أرادت أن توفق بين الموروث اليوناني والموروث الإسلامي, لكنها فشلت وأنتجت ما يطلق عليه الجابري سيادة "المقتبس الرديء" في ثقافتنا العربية (ص 422).

وليس حال الموروث الصوفي في أنظمة الثقافة العربية الإسلامية بأحسن حالاً من ذاك اليوناني, والمعضلة التي يراها الجابري في هذا الموروث هي أن كل شيء ينتهي إلى عكسه بما يقود إلى أن "أخلاق الفناء" تنتهي إلى "فناء الأخلاق". فمثلاً "ينطلق المريد من الشعور الهائج بالذنب لينتهي إلى استثنائه من الذنب, من الخوف من العذاب, عذاب الآخرة.. لينتهي إلى وضعية "الاستثناء" من العذاب.. لكن ثمة شيئان فقط لا يتغيران ولا ينقلبان إلى عكسهما وهما في الحقيقة الركنان اللذان تقوم عليها "أخلاق التصوف", هما: القول بجبرية صارمة, وترك التدبير أي ما يسمونه التوكل… ومن هنا كانت أخلاق الفناء هي أخلاق اللاعمل" (ص 487-488).


شيخ القبيلة هو جماع المروءة, لأن المروءة صارت مرتبطة عضويا بالتسيد والحكم. ويرى الجابري أن "المروءة" فضيلة عربية محضة ونادراً ما تجد مرجعاً غير عربي لها في بقية الموروثات اليونانية أو الفارسية أو غيرهما

في جانب الموروث العربي (الجاهلي) الخالص فإن الجابري يرى أن القيمة المركزية لهذا الموروث تمثلت في "المروءة". فالمروءة هي "ملتقى مكارم الأخلاق يتم تحصيلها ببذل الجهد والمشقة, وهي تكسب صاحبها في مقابل ذلك احتراماً وتقديراً وتجعله قدوة وذا كلمة مسموعة, مع ما ينتج عن ذلك من سلطة ونفوذ معنويين" (ص 531). ومن هنا فإن شيخ القبيلة هو جماع المروءة -افتراضاً- في وسطه, ذاك أن المروءة صارت مرتبطة عضوياً بالتسيد والحكم. ويرى الجابري أن "المروءة" هي فضيلة عربية محضة ونادراً ما تجد مرجعاً غير عربي لها في بقية الموروثات (اليونانية, الفارسية.. إلخ).

أما الموروث الإسلامي فيراه الجابري الفضاء الذي اشتمل على التنافس بين كل الموروثات السابقة بغية أسلمتها ونسبها إلى الإسلام على ما في ذلك من إشكالات وتلفيق. لكن القيمة الأساسية التي يراها الجابري تحتل موضع القلب في الموروث الإسلامي هي قيمة "العمل الصالح", المرتبطة أساساً بكون "المصلحة أساس الأخلاق والسياسة" في الإسلام كما يقول. وهنا يناقش الجابري مصنفات كبار علماء الإسلام, الماوردي, المحاسبي, الغزالي, الأصفهاني, العز بن عبد السلام, ليضع يده على إشكالية كبيرة متمثلة في استغراق هؤلاء (باستثناء العز بن عبد السلام) في تسوية أخلاق "الذين آمنوا" وإغفالهم منطق "الذي عملوا الصالحات". ورغم أنه نادراً ما افترق الوصفان في القران الكريم, إلا أن المتكلمين انشغلوا بالشق الأول وسكتوا عن الثاني, ومن هنا تأتي الأهمية البارزة التي يوليها الجابري للعز بن عبد السلام الذي "تحرر من الانغلاق الفقهي والكلامي ومن إغراءات الأسلمة: أسلمة آداب الفرس (الماوردي), وأسلمة أخلاق اليونان (الراغب الأصفهاني), وأسلمة "آداب السلوك" الهرمسي (الغزالي).. ورجع إلى الأصل: إلى القران" (ص 620).

المصدر : غير معروف