الضحايا الأنصع حقاً: تأريخ الصراع الصهيوني العربي

خدمة كامبردج بوك ريفيوز
هذا الكتاب يمزق المظهر "السلامي" الذي بدا في السنوات القليلة الماضية مميزاً لشريحة من المؤرخين الإسرائيلين عرفوا بوصف "المؤرخون الجدد". فالمؤلف (بني موريس) هو أحد أهم هؤلاء المؤرخين إن لم يكن أولهم ريادية في حقل المراجعات التاريخية الإسرائيلية, يضاف إليه إيلان بابيه وآفي شلايم وتوم سيغف، وجميعهم أنتجوا دراسات حديثة مهمة في إعادة النظر في التأريخ الإسرائيلي.

وموريس تحديداً هو عملياً من أوائل من نفضوا الغبار عن المقولات الإسرائيلية التقليدية ونقضها, خاصة في شأن أسباب اللجوء الفلسطيني إبان حرب عام 1948. وفي كتابه الشهير "ولادة مسألة اللاجئين الفلسطينين" (1988), دحض مقولات الدعاية الصهونية التي كانت ولا تزال تدعي بأن الفلسطينيين تركوا أرضهم بمحض إرادتهم وانصياعاً لنداءات الحكام العرب آنذاك لهم بمغادرة فلسطين ريثما يتم تحريرها.

undefined

– اسم الكتاب: الضحايا الأنصع حقاً: تأريخ الصراع الصهيوني العربي 1881-1999
– المؤلف: بني موريس
عدد الصفحات: 725
– الطبعة: الأولى 2000
– الناشر: ألفرد نوف- نيويورك

ورغم أن عدداً من المؤرخين الغربيين المحايدين -حتى لا نذكر المؤرخين العرب أنفسهم- كان قد فند هذه المقولات (انظر كتاب مايكل بالونبو "النكبة الفلسطينية", إصدرات فيبر أند فيبر سنة 1987), إلا أن موريس, ثم بقية المؤرخين الإسرائيلين الجدد, كانوا أول من اقتنع بخواء الادعاء الصهوني ذاك وأثبت "مسؤولية إسرائيل الجزئية" عن اللجوء الفلسطيني. والبعض يرى في كتاب موريس عن اللاجئين البداية الحقيقية لبروز مدرسة "المؤرخون الجدد". غير أنه من الضروري القول هنا بأن هؤلاء المؤرخين يختلفون في "عمق" المراجعات التي يقومون بها, وفي "مدى" النقد الذي يوجهونه لإسرائيل. وإذ يعتبر إيلان بابيه أكثرهم يسارية وتحرراً من العقدة الصهيونية, فإن موريس يمثل في الواقع أكثرهم التزاماً بالصهيونية وأعلاهم صوتاً في تبرير مشروعها. لكنهم على العموم ينطلقون جميعاً -ما عدا بابيه- من أرضية صهيونية تؤمن بـ"أحقية الحلم الصهيوني" على أرض فلسطين وإقامة دولة يهودية فوقها. الاختلاف إذن في كيفية التنفيذ وشكله وصورته وليس في منطلقاته ومشروعيته. وتقرير هذه الحقيقة لا يقلل من أهمية جهودهم خاصة على مستوى تحطيم الصورة الرومانسية التي كونتها الدعاية الصهيونية في عقول الإسرائيليين حيث صورة "الإسرائيلي البريء" المحاط بـ"عرب متوحشين".

لكن بالعودة إلى الكتاب الذي بين أيدينا والذي يريد موريس من ورائه أن يؤرخ لمجمل الصراع العربي الصهيوني, فإن الذي نقع عليه هنا وجه آخر غير وجه موريس الذي عرفه القراء به في كتاباته عن اللاجئين وسوى ذلك من "تأريخ جديد". فهنا وبسبب الحاجة إلى ضرورة "تأصيل الصراع" والعودة به إلى جذوره الأصلية والحقيقية, الأمر الذي يقوم به موريس بتوسع في المقدمة وفي الفصل الأول, فإن كل القناعات الدفينة والحقيقية لموريس تطل بلا تردد, إذ ينطلق مدفوعاً بهمّ تثبيت مشروعية "الحق الصهيوني" في فلسطين وتبرير العداء الصهيوني الجارف لعرب فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين, أي في حقبة الإعداد لفرض المشروع الصهيوني بقوة السلاح. وفي سياق التبرير وحمية الدفاع عن المشروع الصهيوني فإن موريس يتخفف كثيراً من أردية الموضوعية والأكاديمية ليستخدم العتاد التقليدي لعتاة المنظرين الصهاينة, بل و"يجدد" في تلك المقولات ليقدم "تأريخاً جديداً" لكن معكوساً هذه المرة. ومن هذه المقولات أن "الاضطهاد التاريخي الذي تعرض له اليهود في تاريخ الإسلام" هو أحد أسباب الهولوكست في القرن العشرين, وأن المسلمين بالتالي يتحملون ولو جزئياً مسؤولية "الظلم التاريخي" الذي وقع على اليهود عبر القرون، وأن عدم حساسية العرب والفلسطينيين للمظالم التي تعرض لها اليهود جعلت هؤلاء يردون بعدم حساسية متبادلة عندما تعرض الفلسطينيون إلى ظروف لا إنسانية. وهذا يعني أن الوحشية الصهيونية على مدار القرن الماضي والراهنة مبررة, بل إن جذرها يعود إلى ما أفرزه تاريخ العرب والمسلمين أنفسهم.

يناقض موريس بهذه المقولة الفجة التيار الغالب عند مؤرخي تاريخ اليهود في الإسلام, حيث وسموا ذلك التاريخ بالعهد الذهبي لليهود في كل تاريخهم, وليس هذا وحسب, بل إنه يؤسس حقاً "تأريخاً جديداً" عندما يحاول تلفيق التفاهة القائلة بمسؤولية العرب والمسلمين عن الظلم التاريخي الذي تعرض له يهود العالم.

ولو لم يتورط موريس في "حشر" التأريخ للعلاقات المعقدة بين المسلمين واليهود التي تمتد على مدى أربعة عشر قرنا, وتزخر المكتبات بالدراسات المطولة والموسعة عنها, لكان قد أنتج كتاباً يأخذ موقعه, بمآخذه العادية, وإضافاته المقدرة, في وسط الأدبيات الإسرائيلية النقدية التي صدرت في السنوات الماضية. إلا أن الفشل الذي تسبب عن "ضغط" تاريخ القرون الطويلة في فصل ومقدمة بالاعتماد على رؤية أحادية النظر لذلك التاريخ قدم في المقابل خدمة جليلة تتمثل في إزاحة مساحيق التجميل التي كان يظهر بها موريس في كتاباته السابقة.


عدم بروز مشروع وطني فلسطيني مبكر لإنشاء "دولة فلسطينية" لا يعني عدم أهمية أرض فلسطين للفلسطينيين أو غياب هوية فلسطينية قومية

يبرز النفس الدفاعي المستميت عن جوهر المشروع الصهيوني الكولونيالي في فلسطين عند موريس أيضاً في وضوح قناعاته بأن أرض فلسطين لم تكن مكوناً قومياً حاسماً لتشكيل الهوية الفلسطينية الجماعية، بينما كانت تمثل تلك الأرض المكون المركزي في "الحلم الصهيوني" في إنشاء وطن قومي ليهود العالم. ولا يدري المرء كيف يتجاهل موريس حقائق كبرى من مثل أن عرب فلسطين كانوا كغيرهم من عرب مناطق جوار فلسطين ينظرون إلى أنفسهم كجزء من كل عربي منتشر في المنطقة طوال التاريخ, وحتى الربع الأول من القرن العشرين عندما بدأت الدول بالبروز على شكل دول/أمم وعلى خلفية التقسيم الاستعماري (سايكس بيكو) للمنطقة. وعليه فإن عدم بروز مشروع وطني فلسطيني مبكر لإنشاء "دولة فلسطينية" لا يعني عدم أهمية أرض فلسطين للفلسطينيين أو غياب هوية فلسطينية قومية.

ونتيجة كل ما ذكر أعلاه هي أن كتاب موريس هذا مضلل بشكل كبير. فهو من ناحية سوف يدهش كثيرين بسبب "موضوعية" معالجته لبعض تفاصيل الصراع العربي الإسرائيلي على مدار أزيد من نصف قرن, بينما يضمن في قلب تلك "الموضوعية" الدفوع الأهم عن الصهيونية ومشروعها الاستطياني في فلسطين. ففي جانب مناقشة تفصيلات الصراع, خاصة الحروب وحلقاتها الطويلة, يستعرض موريس العلاقات السرية العربية الإسرائيلية ومحاولات التسوية بدءا من الاتصالات المصرية الإسرائيلية في لوزان سنة 1949, مروراً بعروض الرئيس السوري حسني الزعيم على الإسرائيليين بعد حرب 1948, وكذا الاتصالات العديدة والزيارات المتبادلة بين الملك عبد الله ملك الأردن والإسرائيليين وخاصة غولدا مائير. ويقرر موريس أن معظم تلك الاتصالات ومحاولات التسوية والمبادرات الفاشلة كان سببها الإسرائيليون، فالصهاينة لم يثقوا بالعرب مطلقاً واعتبروهم "غير جديرين بالثقة وخونة", وحتى بعض حلفائهم من الموارنة في لبنان لم يثقوا بهم "لأنهم عرب" (ص 496).

كما يسجل موريس بوضوح أن موضوع "الترانسفير", أي طرد الفلسطينيين من فلسطين وفق برنامج مدروس ومخطط له مورس عملياً من قبل القيادات والمنظمات الصهيونية, رغم أنه لا يقر بأن الترانسفير كان جزءاً نظرياً من المشروع الصهيوني نفسه (ص 253-257). كما أنه يفصل في وحشية الجيش الإسرائيلي في لبنان, ويربط بوضوح بين عمليات حماس وتوسع الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة.

وفي تناوله للصهيونية فإنه يراها كـ"حركة وأيدولوجية استعمارية وتوسعية" (ص 652), لكن عداونيتها ضد العرب مبررة بسبب عدوانيتهم هم وعدم فهمهم واستيعابهم "للأحلام والطموحات اليهودية في فلسطين".

ومن هنا فإن تغليف هذه القراءات التاريخية -الموضوعية إلى حد ما مقارنة بالتأريخ الإسرائيلي التقليدي- بإطار نظري صهيوني وتبريري مدافع عن أسس المشروع هو أكثر خطراً من عدم الموضوعية والمباشرة في تبني موقف فج "تقليدي". فالموقف التقليدي سهل الكشف ولا يتميز بالخداع المركب, بل بالخداع المباشر وتزييف التاريخ المشكوف وغير ذلك من تكتيكات. أما الدفاع المركب وغير المباشر فهو الذي يخترق الدوائر التي يستعصي اختراقها على النوع الأول من الدفاعات.

المصدر : غير معروف