الدعاية السياسية والعقل العام

خدمة كامبردج بوك ريفيوز
أهمية مطالعة هذا الكتاب تكمن في ملاءمته لأيام ما بعد الهجمات على واشنطن ونيويورك التي حدثت في الحادي عشر من شهر أيلول الجاري, وما تبعها من حملات إعلامية سياسية غربية هائلة تهدف إلى حشد وتصنيع الرأي العام باتجاه ما تريد واشنطن القيام به من رد على من تعتقد أنهم قاموا بتلك الهجمات. فالمتتبع هنا للخطاب السياسي الدعائي الذي تتبناه بقوة إدارة جورج بوش يلحظ القسوة والصلابة وعدم القبول بالرأي المخالف أثناء عملية "تصنيع" رأي عام يقف وراء صيحات الحرب.

undefined–اسم الكتاب: الدعاية السياسية والعقل العام
-المؤلف: نعوم تشومسكي
–عدد الصفحات:252
–الطبعة: الأولى 2001
الناشر: بلوتو برس- لندن.

ومن هنا بالضبط تأتي أهمية تحليلات مفكر مثل نعوم تشومسكي, اللغوي, والسياسي, وعالم الاجتماع الأميركي المنشق على "الإجماع العام" في دوائر صنع القرار والتيار الرئيسي السياسي ومفكري الولايات المتحدة. فتشومسكي هو الذي نحت المصطلح الذائع الصيت والمعبر "تصنيع الإجماع" وذلك في كتاب شهير بنفس العنوان عالج فيه دور الإعلام الغربي في قولبة عقل رجل الشارع في الغرب, بمهارة ودهاء ومن دون أن يظهر ذلك معاكساً لشعارات حرية التعبير وتعددية الأصوات.


الإعلام الأميركي يتعامى عن سؤال مركزي هام ولا يدفع الرأي العام لمناقشته أو حتى التفكير فيه, وهو سؤال "لماذا" يحدث هذا للولايات المتحدة, ولماذا تتعمق الكراهية لسياستها في طول وعرض العالم بما ينتج عمليات إرهابية وحشية ضد مدنييها كما حدث مؤخرا؟

وهنا في كتابه الجديد والمهم هذا يواصل نعوم تشومسكي كشف الكثير من الحقائق والسياسات الإعلامية وطرق اتخاذ القرارات في الغرب وخاصة في الولايات المتحدة, وكذا علاقة الإعلام بتصنيع إجماع عام يخدم التوجه السياسي العام للبيت الأبيض. وهو يكرس تحليلاته وأبحاثه في قراءة ما لا يراد لعامة الناس الوصول إليه, وهو يقول إن ما لا يتحدث عنه السياسيون الأميركيون هو أهم بكثير مما يتحدثون عنه في العلن. والسؤال المركزي الذي يدعونا لطرحه على أنفسنا عند متابعة الإعلام الأميركي هو لماذا قالوا لنا هذا, ولماذا لم يقولوا لنا ما لم يقولوه؟ أي أن المسكوت عنه هو أخطر من المعلن عنه, وهذا الكتاب هو في الواقع ضوء كثيف مسلط على المسكوت عنه في السياسة الأميركية وخاصة الخارجية والمتعلقة ببلدان العالم الثالث من أميركا اللاتينية إلى آسيا وأفريقيا إلى الشرق الأوسط.

وإذا أردنا أن نطبق هذا السؤال على مجريات الإعلام الأميركي الحالي الخاص بتصنيع رأي عام حول "ضرورة شن حرب" تمثل الرد الأميركي العسكري والقاسي على الهجمات التي حدثت, فإننا نلمح كيف أن هذا الإعلام يقود عملية واسعة النطاق للإجابة على أسئلة من مثل: من الذي قام بهذا العمل, وكيف قاموا به, ومن هي الدول التي ساعدتهم, وكيف يمكن الرد بفاعلية عليهم. ولكن في نفس الوقت فإن هذا الإعلام يتعامى عن سؤال مركزي هام ولا يدفع الرأي العام لمناقشته أو حتى التفكير فيه, وهو سؤال "لماذا" يحدث هذا للولايات المتحدة, ولماذا تتعمق الكراهية لسياستها في طول وعرض العالم بما ينتج عمليات إرهابية وحشية ضد مدنييها كما حدث مؤخرا؟ هذا السؤال يقض مضجع صناع القرار ويبعثر بوصلة "الإجماع المصنع" لهذا فإن الإعلام الأميركي بماكينته الضخمة يحاول أن يهيل عليه تراب التحليلات والأسئلة الأخرى, والتعامي عنه, أو التعرض له بسطحية وسرعة من دون تخصيص نفس الوقت ونفس عدد المحللين أو المعالجة كما يحدث عند تناول الأسئلة والجوانب الأخرى لما حدث.

وأهمية ما يكتبه تشومسكي تنبع من ثراء تجربته واتساع اطلاعه على موضوعات متشعبة تبدأ من اللغة وتمر في الثقافة والإعلام وتتوقف ملياً عند السياسة والاقتصاد ولا تنتهي بالعلاقات بين الشمال والجنوب. وهو في تفكيكه لأساليب صناعة الرأي العام يستشهد بتجربة ذاتية مر بها خلال حرب الخليج سنة 1990/1991 (ص 47 و48). فيقول إن الرأي العام الرسمي والشعبي في الولايات المتحدة تم تعبئته بشكل مثير ليقف خلف سياسة جورج بوش في إعلان الحرب, وإن السماح للأصوات المعارضة للحرب بإعلان رأيها عبر شبكات الإعلام الوطني المسموعة بلغ حده الأدنى. ويتذكر كيف أن "الراديو الوطني العام", أحد أهم الإذاعات الأميركية المسموعة في كل الولايات, قرر أن يتيح لتشومسكي المجال كي يعبر عن رأيه المعارض للحرب. وأن المدة التي منحت له كانت دقيقتين ونصف فقط لشرح وجهة نظره شرط أن يكون قد كتب النص مسبقاً وأن يقرأه مكتوباً ولا يرتجله وأن ذلك سوف يسجل ثم يذاع لاحقاً, أي أنه لن يكون مباشراً على الهواء. ويقول تشومسكي أنه لما قرأ النص ليسجل ثم ليذاع تجاوز المدة المقررة له حيث بلغت مدة التسجيل دقيقتين وستة وثلاثين ثانية, ولذلك طلبوا منه أن يعيد التسجيل ثانية بشكل أسرع حتى لا يتجاوز المسموح. ويتابع أن الرأي الذي طرحه آنذاك كان جوهره التساؤل عما إن كانت الولايات المتحدة مستعدة لقصف عواصم مثل تل أبيب أو أنقرة أو جاكرتا كما قررت قصف بغداد. ولكن هذا الرأي لأنه يجيء وسط طوفان من الدعاية السياسية والإجماع التام على صحة التوجة الرسمي بدا وكأنه رأي لشخص قادم من كوكب آخر, خاصة وأنه لم يكن ثمة وقت للتوضيح أو الشرح أو الدفاع عن الرأي. وهنا تكمن لعبة صناعة الرأي العام, حيث من ناحية أولى تتم التعبئة العامة باتجاه ما تريده السياسة المركزية للبيت الأبيض, ثم تسمح بعد التأكد من حصول الإجماع لبعض الأصوات من التعبير عن رأيها المعارض فتبدو غريبة وناشزة.


يناقش تشومسكي ما يراه أحد أهم الوسائل "الدستورية" التي تتبع في صناعة القرار في الولايات المتحدة، وهي مبدأ "المسار السريع" والذي يجيز للرئيس الأميركي قانونياً اتخاذ قرارات بشكل سريع لا يخضع للخطوات التقليدية المعروفة والتي أهمها موافقة الكونغرس.

يناقش تشومسكي ما يراه أحد أهم الوسائل "الدستورية" التي تتبع في صناعة القرار في الولايات المتحدة وتمرر من تحتها قرارات في غاية الخطورة وبعيداً عن رأي الكونغرس أو الرأي العام الأميركي. هذه الوسيلة هي مبدأ "المسار السريع" والتي تجيز للرئيس الأميركي قانونياً اتخاذ قرارات بشكل سريع لا يخضع للخطوات التقليدية المعروفة والتي أهمها موافقة الكونغرس على القرار المعني ومناقشته بشكل علني. ويضرب تشومسكي أمثلة على ذلك من مثل الاتفاقية متعددة الأطراف حول الاستثمار والتي عارضتها نقابات العمال الأميركية ولم تحظ بموافقة شعبية, وكان من حق الرئيس الأميركي البت فيها من دون أن ينظر الكونغرس فيها.

وكشواهد على تطبيقات هذا المبدأ يستعيد تشومسكي بعض تاريخ التدخل الأميركي في غواتيمالا في الثمانينات خلال حقبة الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان, وحيث كانت قرارات التدخل وتخصيص الميزانيات, وتوكيل وكالة الاستخبارات المركزية, وغير ذلك من قرارات تتم وفق هوى الرئيس وحفنة من مستشاريه المقربين ومن دون رقابة برلمانية من الكونغرس. فكثير من تلك القرارات والتي كان يتخذها ريغان لدعم النظام الدكتاتوري الغواتيمالي في تلك الفترة كانت تمر عبر "المسار السريع", وبذلك تبدو مغطاة دستورياً. وكانت سياسة الدعم اللامحدود التي اتخذتها إدارة ريغان آنذاك قد تسببت, بحسب ما يروي تشومسكي, في مقتل ما يقارب المائتي ألف وتهجير مليون ونصف من الأبرياء تتحمل الحكومة والدعم الأميركي لها ما نسبته 90% منها وتتحمل قوات المتمردين ضد الحكومة مسؤولية النسبة المتبقية.

والشيء المهم في معالجة تشومسكي سواء في المثال الغواتيمالي أو غيره هو ما يراه من تغير في سياسة ممارسة القوة والنفوذ من قبل الولايات المتحدة, من مرحلة التدخل المباشر الفج, كما في بنما, إلى مرحلة التدخل غير المباشر وبعيداً عن الأعين والرأي العام والإعلام. ويرى أن سبب ذلك هو وعي الرأي العام الأميركي والعالمي ورفضه للسياسات التدخلية, الأمر الذي دفع بالقوة والنفوذ الأميركيين إلى التواري خلف الستار واللعب من هناك. وهنا يقتبس عن صاموئيل هانتنغتون مقولة شهيرة يقول فيها "إن على صناع القوة في الولايات المتحدة أن يبتكروا أنماطا من ممارسة القوة مما يمكن استشعار نتائجها لكن لا يمكن رؤيتها. فالقوة تظل صلبة طالما بقيت في الظلام, وإذا تعرضت لضوء الشمس فإنها تبدأ بالتبخر". ويلحظ تشومسكي أن هذه "النصيحة" هي ما تأخذ به السياسة الأميركية الراهنة فهي تحاول أن تضغط بشكل غير مباشر وبحيث تشعر الأطراف المختلفة بوطأة النفوذ الأميركي وتفهم أين تكمن رغبة الولايات المتحدة من دون أن يظهر هذا الضغط على العلن.

يتحدث تشومسكي عن جرائم حرب يعتقد أن الولايات المتحدة قامت بها ويجب أن تحاسب عليها, ويذكر منها قصف مصنع الأدوية في السودان سنة 1998, وكذلك ضرب أفغانستان بالصواريخ في نفس السنة, واستمرار الحصار على العراق وموت مئات الألوف من أطفاله بسبب نقص الدواء والغذاء وغير ذلك. وينتقد تشومسكي هنا بشدة تعليق مادلين أولبرايت, وزيرة الخارجية السابقة, على سؤال لأحد الصحفيين على شاشة إحدى أهم محطات التلفزة الأميركية عندما سألها كيف يمكن أن تقبل بموت نصف مليون طفل عراقي بسبب الحصار, فأجابت بأنه خيار صعب لكن الثمن يستحق ذلك.

والواقع أن التطواف الممتع في كتاب تشومسكي الذي اتخذ شكل حوارات مطولة أجراها معه الصحفي والإذاعي الأميركي القدير ديفيد بارساميان يشكل رحلة مستفزة للتفكير والعقل, غنية بالشواهد والإشارات والمعلومات الغنية التي لا يستطيع أي كان أن يهضمها ويستنتج خطوطها الأساسية وما يقف خلفها من سياسات إلا إن تمتع بمثل مقدرة تشومسكي على التحليل والربط والتفكيك.

المصدر : غير معروف