فقاعة التفوق الأميركي

عرض/ كامبردج بوك ريفيوز
جورج سورس الملياردير الأميركي ذو الأصول الأوروبية الشرقية يفاجئ قراءه في كل مرة يكتب فيها، فهو وإن كان مدينا بامتياز للعولمة التي جمع من خلالها ثروته الهائلة، فقد كتب بشراسة ضدها وضد انفلاتاتها وآثارها على الدول النامية في كتابه عن العولمة.

وإن كانت أمواله قد طافت الأسواق المالية في العالم أجمع فتضاعفت عبر الطواف ذاك وخاصة في أسواق شرق آسيا واتُهم بأنه كان وراء انهيار بعضها، فقد كتب بضراوة ضد هشاشة النظام المالي العالمي ودعا إلى ضبطه ومراقبته في كتابه عن إصلاح النظام المالي المعولم.

والآن وهو الذي كان قد هاجر إلى الولايات المتحدة بلد الفرص والأحلام، وحقق فيها ربما ما لم يحلم به أصلاً، فإنه يكتب بلا هوادة ضد نظامها الداخلي وسياستها الخارجية، ويحمل حملة شعواء على يمينها المحافظ الحاكم اليوم.


undefined


– اسم الكتاب: فقاعة التفوق الأميركي
– المؤلف: جورج سورس
عدد الصفحات: 203
– الطبعة: الأولى 2004
الناشر: ويدندفيلد ونيكولسن، لندن

هدفه من وراء الكتاب واضح وصريح ويسطره في الصفحة الأولى: سأبذل كل جهدي حتى لا يفوز جورج بوش في الانتخابات الرئاسية القادمة.

وفي سياق هذا الجهد يشرّح أوجه الخراب التي ألحقتها إدارة بوش الجمهورية بالولايات المتحدة داخليا وخارجيا. في السطر الأول من الكتاب يقول "إنني أعتبر سياسة بوش التي تتبنى الضربة العسكرية الوقائية مدمرة، وكذا يعتبرها كثيرون حول العالم".

الداروينية الأميركية الحاكمة
يقسم سورس كتابه إلى جزأين: الأول "رؤية ناقدة" والثاني "رؤية بناءة"، ويتوزع كل قسم على عدة فصول. في الجزء الأول يفكك وينتقد ويهاجم ويتهم، وفي الثاني يقدم البدائل فيصوغ ما يراه حلولا ومقترحات تخرج بأميركا من الوحل الذي ورطها فيه جورج بوش كما يرى.

قاعدة انطلاقه في نقده لأميركا بوش وإدارته هي ما يراه من أن حكومة أقوى دولة على وجه الأرض وقعت في يد من يراهم "مجموعة من المتطرفين الذين تقودهم الصيغة الفجة من الداروينية الاجتماعية".

وهو يفضل استخدام وصف "الداروينية الاجتماعية" للإشارة إلى اليمين الأميركي الحاكم عوضا عن وصف "المحافظين الجدد". فالداروينية تعني "البقاء للأصلح"، وهي متوحشة وتعبر عن توحشها في الاقتصاد عن طريق حصر التنافس بين الشركات الكبرى وقتل الصغرى. وفي السياسة تحصر التنافس بين الدول فتطيح الكبرى بالصغرى أيضا.


سيطرت شعارات "المشروع الأميركي للقرن الجديد" على الخطاب الرسمي في حقبة ما بعد 11 سبتمبر، حيث أصبحت قيم الحرية هي القيم الأميركية والسير نحو تحقيق المصلحة الأميركية يخدم بالتوازي المصلحة العالمية

يرصد سورس جذور الداروينية الأميركية الحاكمة في "مشروع القرن الأميركي الجديد" الذي صاغته عام 1997 مجموعة من المحافظين الجدد دعوا فيه إلى انتقال أميركا إلى مرحلة الهجوم والسيطرة العالمية من دون تحفظ، من أجل الحفاظ على الموقع القيادي لها في القرن الحادي والعشرين.

أميركا -بحسب المشروع ذاك- يجب أن تنطلق لتحقيق أهدافها غير آبهة باعتراض الأمم الأخرى، وهي لن تتوقف كثيرا عند مسألة التعاون مع الدول أو الأمم المتحدة إن هي رأت أن مصالحها يمكن أن يتم تحقيقها من دون ذلك. على أميركا أن تواجه بالقوة العسكرية والحزم أي دولة تتحداها، وعليها أن تثبت أن بمقدورها القيام بذلك من دون تردد.

وتوج المشروع بوثيقة يوردها سورس في كتابه عنوانها "بيان المبادئ". ولا تتمثل خطورتها في نبرتها الهجومية والشبق نحو السيطرة فحسب، بل في مجموعة الأسماء الموقعة عليها.

فهي تحتوي على شخصيات أصبحوا فيما بعد هم الحكام المباشرين للولايات المتحدة في إدارة بوش، ومن ضمنهم: نائب الرئيس ديك تشيني، ووزير الدفاع دونالد رمسفيلد، ونائبه بول ولفويتز، وغيرهم ممن أصبحوا مستشارين ومقربين، إضافة إلى عدد من مفكري اليمين المشهورين مثل فرانسيس فوكوياما ودونالد كيغان.

كانت تلك "المبادئ" والمشروع الذي تحمله بحاجة ماسة إلى ظرف تاريخي كي تقتنصه فتنقل من أفكار على الورق إلى تطبيق على الأرض، وهذا ما وفرته تفجيرات 11 سبتمبر/ أيلول "الإرهابية الغبية" على طبق من ذهب.

فالذي حدث كما يقول سورس أن "داروينيي" إدارة بوش لم يضيعوا دقيقة واحدة وهم يفركون أيديهم غبطة على توفر الفرصة السانحة، لذلك كانت ردة الفعل الأميركي على تلك التفجيرات مفاجئة للجميع، لأنها في الواقع لم تكن خاصة بالتعامل مع حدث ظرفي بقدر ما كانت معنية بتطبيق إستراتيجية جاهزة كانت تنتظر لحظة نضوج ظرفها الموضوعي.

ويلحظ سورس كيف أن "مبادئ" وشعارات "المشروع الأميركي للقرن الجديد" سيطرت وطغت على الخطاب الرسمي السياسي والإعلامي في حقبة ما بعد 11 سبتمبر/ أيلول. فقد كرر بوش بلا ملل أن قيم الحرية هي القيم الأميركية وهي التي يجب أن تنتشر، وساوى بين مصالح أميركا الخاصة ومصالح العالم بأسره، بما يعني أن السير نحو تحقيق المصلحة الأميركية يخدم بالتوازي المصلحة العالمية.

هذا الفكر الإمبريالي قيمياً والمطبق عسكرياً في أفغانستان والعراق هو الإطار العام "لفقاعة التفوق الأميركي" كما يراها سورس، وهو يرى أن نهاية تفوق أميركا وفقدانها لموقعها القيادي في العالم سيكون النتيجة الحتمية لمثل هذا الفكر.

ولهذا السبب فإنه يستشعر "ضرورة أن يهب هو والمخلصون من الأميركيين" لوقف هذا الانحطاط السياسي وإنقاذ أميركا من العصبة اليمينية الحاكمة. والغريب في تشكيلة هذه العصبة كما يرصد سورس، أنها تتكون من مجموعات متنافرة فكريا.


في عهد بوش وحروبه "الإلهية والتبشيرية والوطنية" تحول نقاد السياسة الخارجية ومعارضوها إلى خونة يُشك في ولائهم للوطن، وصار التقييم يعتمد مبدأ "معنا أو ضدنا" من دون تفاصيل أو لكن

أصوليون أميركيون
فمن جهة هناك أصوليو المسيحية المتصهينة المتطرف المنضوي تحت الحزب الجمهوري والذي يرى في جورج بوش صورة من صور الإيمان المسيحي النقي. ومن جهة ثانية هناك أصوليو السوق الذين يؤمنون بقدرتها الخارقة على تحريك وقيادة العالم نحو سعادته المرجوة، ولا يترددون في فرض هذا الإيمان على العالم بكل الوسائل. وكما أن الأولين ليسوا بالضرورة أصوليي سوق، فإن الآخرين ليسوا حتما ملتزمين دينيا أو حتى مؤمنين.

إضافة إلى هؤلاء وأولئك، هناك أصوليو الهيمنة الأميركية الذين يؤمنون بحتمية ومركزية وضرورة بقاء أميركا في موقع متحكم في العالم، استنادا إلى مزيج من التحليل الإستراتيجي والشعور بنوع من الرسالية التي تعتقد أن الله يقف إلى جانب الولايات المتحدة.

جورج سورس يفكك كل هذا التشكيل ويشبعه نقدا، ويرى أنه يمثل الخطر الداخلي الحقيقي على الولايات المتحدة. لكنه ينبه في الوقت ذاته إلى أن خطورة الوضع الأميركي الحالي- المرتكزة شرعيته على حتميات "الحرب ضد الإرهاب" والإعلاء من وطنية من يؤيدها- تمتد لتصل حد اغتيال تقليد من أهم تقاليد الحياة السياسية والديمقراطية الأميركية، وهو تقليد المعارضة والتمرد.

ففي عهد بوش وحروبه "الإلهية والتبشيرية والوطنية" تحول نقاد السياسة الخارجية والمعارضون لها إلى خونة ولاوطنيين يُشك في ولائهم للوطن. وصار التقييم يعتمد مبدأ "معنا أو ضدنا" من دون تفاصيل أو لكن.

يقول سورس -محقاً- إن أحداث 11 سبتمبر/ أيلول كان يجب أن تُعامل على أنها جريمة ضد الإنسانية وليس عملا يستدعي إعلان الحرب في كل مكان. فتلك الجريمة تم التنديد بها من قبل كل دول ومجتمعات العالم، وحظيت الولايات المتحدة والأميركيون على أوسع قدر متخيل من التعاطف العالمي.

وكان بالإمكان استثمار ذلك التعاطف لتقوية العلاقات الأميركية بكل دول ومجتمعات العالم وتجييشها برغبتها للعمل ضد الإرهاب، على قاعدة التعاون المتكافئ وليس الفرض الفوقي القسري.

لكن ما حدث هو أن أميركا أرادت أن تتحرك بانفرادية معتمدة سياسة فرض لا نقاش فيها، مما أفقدها لحظة التعاطف التاريخية تلك التي كان بالإمكان جعلها نقطة مفصلية للحد من العداء المتبادل بين أميركا والعالم.

والخلاصة لذلك كله هي -كما يجملها سورس- أنه لم يمر وقت على الولايات المتحدة تدهور فيه وضعها في العالم في وقت قياسي وقصير جدا كما هو في عهد جورج بوش الابن.

تواطؤ الأمم المتحدة
سورس لا يوفر الأمم المتحدة من نقده ويرى أنها تواطأت مع إدارة بوش رغم محاولات المقاومة التي أبدتها. وأكثر ما ينتقده في أدائها هو شرعنتها للاحتلال في العراق عبر قرار مجلس الأمن رقم 1483 الذي فوض سلطة التحالف بحكم العراق منتهكا سيادة دولة مستقلة عضو في الأمم المتحدة.

ربما يكون سورس محقا في هذا، لكن يسجل للأمم المتحدة أنها وصفت "قوة التحرير" التي كانت قوات التحالف تصف نفسها بها "بقوات احتلال"، وبذلك مهدت شرعيا وقانونيا لمقاومتها. لكن الأهم من ذلك هو أن مجلس الأمن رفض بقوة إصدار قرار يعطي الشرعية للقيام بالحرب ضد العراق وحتى تكون تحت مظلة الأمم المتحدة.

لكن.. إن كان القارئ العربي يتوافق بالمجمل مع قراءة سورس لما تحدثه إدارة جورج بوش من خراب على المستوى الداخلي والخارجي، فإنه سيفقد أعصابه في الحالات التي يتحدث فيها سورس عن القضية الفلسطينية، إذ هنا يفقد هذا الملياردير الذي ينفق على مئات المؤسسات الخيرية في العالم الداعمة لحقوق الإنسان والمشجعة للديمقراطية.. يفقد القدر الأدنى من التحليل المنصف، فضلا عن التحلي بالأخلاقية المطلوبة.


تواطأت الأمم المتحدة مع إدارة بوش عبر شرعنتها لاحتلال العراق في قرار مجلس الأمن رقم 1483 الذي فوض سلطة التحالف بحكم العراق منتهكا سيادة دولة مستقلة عضو في المنظمة الدولية

فمثلا يفرد صفحات للحديث عن كيفية تحول الضحية إلى جلاد للتدليل على ردة الفعل الأميركي القاسية على أحداث 11 سبتمبر/ أيلول. وفي سياق هذا الحديث يذكر كيف أن إسرائيل -التجمع اليهودي بعد الهولوكوست- تحول جزءا من سياستها إلى سياسة تضر "بالسكان الموجودين هناك". ويتفادى التلفظ أو ذكر اسم "الفلسطينيين" أكثر من مرة، وكأنهم شعب لا اسم له ولا هوية. وفي المرات القليلة التي يذكرهم فيها فإن ذلك يكون في سياق غير إيجابي مثل الإرهاب الذي يقوم به الفلسطينيون أو غير ذلك.

أسوأ من ذلك فإنه يعتبر إسرائيل هي حجر الزاوية، وأنها الشيء الطبيعي وأن ما تتعرض له شيء غير طبيعي، من دون أن يركز كما ينبغي على أوليات الصراع، ومركزية فكرة الاحتلال وطرد ملايين اللاجئين الذين يشطبهم بجرة قلم، قائلا إن حقهم في العودة يهدد الدولة اليهودية.

ربما كانت هذه التفريعة هامشية في الكتاب المخصص لإطلاق معركة قاسية ضد جورج بوش، لكنها تفريعة ذات دلالة. فإن كان سورس الديمقراطي والليبرالي -بخلاف بوش الجمهوري المحافظ- لا يكاد يختلف قيد أنملة عنه فيما يتعلق بالنظر إلى قضية الشرق الأوسط، فإن من حق القارئ العربي أن يظل فاقدا للثقة في كثير من الكلام الأميركي حول الأخلاقية السياسية كما يظل يرددها سورس، واحترام العدل والحد الأدنى من حقوق الإنسان الفردية منها والجماعية.

المصدر : غير معروف