إنجلز.. مقدمة قصيرة جدا

مراجعة/ كامبردج بوك ريفيوز
هذا الكتاب واحد من سلسلة جديدة من الكتب تصدر عن مطبعة جامعة أوكسفورد تحت عنوان "مقدمة قصيرة جداً"، وتقدم عرضاً موجزاً وثرياً لمجموعة من المفكرين والظواهر الثقافية. وفي تنوع مواضيعها ما بين النظرية الأدبية والمنطق أو ما بين أسرة ثيودور الملكية والكتاب المقدس, تتناول السلسلة بالعرض والتحليل العناصر الرئيسية المتعلقة بالشخص أو الموضوع الذي تقدمه.


undefined-اسم الكتاب:إ
نجلز.. مقدمة قصيرة جداً
–المؤلف: تيريل كارفر
-الطبعة: الأولى، 2003
الناشر: أوكسفورد
-عدد الصفحات: 118

ويتولى كتابة كل جزء منها خبراء في المجال المعني أخذوا على عاتقهم مهمة إعطاء القارئ فكرة وافية عن المفكرين المهمين والحركات والأحداث البارزة في العالم. ومن هنا فإن إصدار كتاب كامل عن فردريك إنجلز قد جاء بمثابة مفاجأة للقراء.

ولا تأتي الدهشة من كون إنجلز لا يستحق أن يفرد له كتاب في هذه السلسلة, ولكن من كونه قد ثبت في الأذهان بصفته تابعاً لشريكه الأشهر كارل ماركس بدلاً من اعتباره مؤسساً لحركة جديدة أو رائداً في مجال ذي أهمية شخصية خاصة. لكن هذا الكتاب يظهر أن فردريك إنجلز لم يكن فقط أكثر أهمية مما يعرف عنه على الصعيد الشعبي, إنما يعرّف بتأثيره التاريخي على نحو يقود إلى تغيير الصورة الشائعة عن كارل ماركس نفسه.

ولد إنجلز في عائلة ألمانية من أتباع ما يسمى مذهب التقوى، تقطن في مدينة بعمق الريف الألماني. لكنه ترك مدينته الأصلية إلى برلين ليحترف الصحافة ثم ينتقل إلى العمل في صناعة غزل القطن التي تمتلكها عائلته. ومنها تحول إلى ناشط في مجال الكتابة, والسياسة, والمتابعة الاجتماعية. وقد تبدو المجالات التي طرقها للعمل متباينة وشديدة الاختلاف، إلا أن رابطة مهمة كانت تربط ما بينها جميعاً هي قدرة إنجلز على تبسيط الأفكار ونقلها إلى أكبر عدد ممكن من الناس، وهي القدرة التي تجلت في جميع الأعمال التي اضطلع بها، حيث كان يستوعب المواقف المعقدة ثم يعيد تقديمها بصيغة قابلة للوصول إلى الجميع دون أن يقلل ذلك مما يحيطها به من سعة المعرفة وثرائها.

ظهرت قدرته على إيصال الأفكار بهذه الدرجة من الكفاءة في مرحلة مبكرة من حياته العملية, لكنها في تلك المرحلة كانت تنصب على اهتمامات ذات طبيعة متواضعة. ومن هنا, فإن مقالاته الصحفية, رغم كفاءتها, ظلت منشغلة بالتبسيط مما أفقدها الوقع المؤثر.


ظهرت قدرة إنجلز على إيصال أفكاره بدرجة من الكفاءة في مرحلة مبكرة من حياته العملية, لكنها في تلك المرحلة كانت تنصب على اهتمامات ذات طبيعة متواضعة ومبسطة مما أفقدها الوقع المؤثر

وهو الأمر الذي يمكن أن يكون قد ترك أثرا على اختياره اللاحق للأسلوب والصيغة اللذين عرف بهما. فقد تطور أسلوبه هذا ليتبلور في كتابه الكلاسيكي الذي ظهر عام 1845 تحت عنوان "ظروف الطبقة العاملة في إنجلترا". فعلى الرغم من اعتماد الكتاب بشكل كبير على المتابعة الاجتماعية, فإن إنجلز قد حقق فيه نقلة حولته من مجرد موصف لآثار الاقتصاد السياسي إلى ناقد له.

وقد أعرب فيه عن اعتقاده أن الليبرالية الداعية إلى التجارة الحرة تعاني من خلل ضمني يتعلق بصميم تكوينها لأنها تقوم على استغلال الطبقات العاملة: وهو وضع بات يعبر عن نفسه بالجريمة وسوف يقود سريعاً إلى الثورة. وقد أعجب كارل ماركس بهذا الطرح المبتكر المعادي لليبرالية.

وهكذا, قرر الاثنان العمل معاً في مسعى مشترك ضد "الهيغليين الشباب" الذين كان ماركس ينتسب إليهم حتى عهد قريب. بعد هذه البداية المشتركة, انتقل الاثنان لإنجاز عملهما المشترك الشهير، ألا وهو "البيان الشيوعي" الذي استهلاه بالعبارة الشهيرة التي تقول "إن كل تاريخ المجتمعات المدون حتى الآن هو تاريخ للصراعات الطبقية".

وقد عكس "البيان" رغبة الاثنين ليس في وصف العالم فحسب بل في تغييره. لكن "البيان," في الواقع, كان نوعاً من التوصيف الخاطئ الذي قدم العالم على أنه سائر في حالة تغيير بدلاً من استنهاض الآخرين لتغييره. فالواقع هو كما رآه أي جي تايلور الذي قال "ربما كان ينبغي لكل التاريخ أن يكون تاريخاً للصراعات الطبقية, لكن الأمر لم يأخذ هذا المسار".

العلاقة التي بدأت بين الاثنين كشراكة ندية, مالت سريعاً إلى اتخاذ طابع العلاقة بين "المعلم" ومعاونه. مضى ماركس بعد ذلك إلى كتابة "رأس المال." وعلى الرغم من أن إنجلز قد أكمل الجزأين الثاني والثالث من الكتاب, إلا أنه قام بذلك اعتماداً على الملاحظات التي كان ماركس قد دونها. ومع أن الكتاب قد استلهم الكثير من أفكار إنجلز وأعماله, بما في ذلك نقده للتصنيع, فإن كتاب "رأس المال" كان في أغلبه كتاب ماركس.

وينجح مؤلف هذه المقدمة السريعة والمتوازنة في توضيح طريقة تقسيم العمل بين الاثنين, حيث يقدم لنا صورة نرى فيها ماركس يقوم بدور المنظّر وإنجلز بدور الكادح الدؤوب الذي يحتاج إلى أن يحث رفيقه ماركس ليحمله على الخروج من إطار تركيبته الفكرية كيما يضع على الورق أفكاره التي كانت ستظل مبهمة لولا جهد إنجلز.

وفي هذا الصدد بالذات يكون تيريل كارفر قد خذل الطرف الذي اختاره موضوعاً لكتابه. إذ أنه من الممكن أن الشراكة مع ماركس لم تكن متكافئة من جانب إنجلز, لكن "رأس المال" ما كان ليكتب ويرى النور لولا السنوات التي أنفقها إنجلز في الملاحقة, والحض, وتقديم العون.

يضاف إلى ذلك أن ماركس المفكر المفلس, كان يعتمد على شريكه في جميع ما يحتاجه من لوازم العيش مستفيداً من ثروة إنجلز على مدى ثلاثين سنة تقريباً. ولو توخينا الحقيقة لوجدنا أن اعتماد ماركس على إنجلز لم يقتصر على المجال المادي, فالأفكار التي تضمنها "البيان الشيوعي" كانت قد وجدت طريقها إلى النشر قبل ذلك في كتاب إنجلز "التعاليم الشيوعية," في حين أن كل ما جمعه ماركس من معلومات حول الشؤون المالية والمصرفية كان إنجلز مصدره.

بعد وفاة ماركس, تابع إنجلز أعماله الخاصة به, فكتب عن جملة من المواضيع التي تفاوتت ما بين الشؤون العسكرية والاقتصاد السياسي, لكن الإنجاز الذي حفظه له التاريخ من تلك الفترة يتمثل في الجهود التي بذلها لكي يصبح الماركسي الأول. آمن إنجلز بما أسماه "القوانين الحديدية للمادية الديالكتيكية" وهي النظرية التي وضعها ماركس والقائلة إن حركة التاريخ تستند إلى التغيرات التي تطرأ على وسائل الإنتاج.

واستخدم هذه النظرية كمنطلق له، ليس فقط في كتابة التاريخ وحده كما فعل بتناوله لثورة الفلاحين عام 1525 والحرب التي تبعتها, وإنما في التبشير, دون كلل أو ملل, بالثورة القادمة. وكان يرى نفسه في دور قائد للفرسان في الحرب الثورية القادمة. ولهذا السبب, حافظ على ذلك الجانب من علاقاته الاجتماعية الذي تمثل في مشاركته في الصيد على ظهور الجياد مرة كل أسبوعين بولاية تشيشاير.


نجح المؤلف في توضيح طريقة تقسيم العمل بين ماركس وإنجلز, حيث يقدم لنا صورة نرى فيها ماركس هو المنظّر وإنجلز الكادح الدؤوب الذي يحث رفيقه ليحمله على الخروج من إطار المجهول إلى المعروف

يعتبر هذا الكتاب الموجز بما قدمه من إعادة تقييم لفردريك إنجلز مفيداً جداً للقارئ الذي يتطلع إلى فهم العالم الحديث. فقد كان جميع زعماء حكومات أوروبا الشرقية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية من أتباعه وورثة أفكاره. أما بالنسبة لأيامنا هذه, فإن إرث إنجلز قد أصبح جزءاً من الماضي.

فمهما كانت الحسابات التي يمكن أن نجريها, فإن النتيجة تظل واحدة: وهي أن إنجلز كان على خطأ. فالثورة العالمية لم تكن حتمية, والسيادة المؤقتة للأنظمة التي اعتنقت الماركسية اللينينية (لاحظ إغفال اسم إنجلز) لم تتحقق إلا عن طريق الغزو, ولم تظل على قيد البقاء إلا باستخدام القوة. إذ لا توجد هناك "قوانين" للتأريخ. ومن السخف التفكير بأن أية كمية من "الاستقراءات" لتلك "القوانين" يمكن أن تحدد أحداث الغد.

انهيار الشيوعية جاء على غير توقع تماماً كما جاء انتشارها. وإذا كان لنا أن نختار أفضل ما جاء به هذا الكتاب, فهو الإحالة من جديد إلى كارل ماركس الذي لم يضع مطلقاً أية قوانين تاريخية, وإنما اكتفى بنظرية التغيير التاريخي.

إن خطأ إنجلز يمكن أن يرجع في نهاية المطاف إلى إخفاقه في فهم الطبيعة البشرية, ففي تفسيره للسلوك المعادي للمجتمع, مثل الجريمة, على أنه نتاج النظام غير العادل, لا يقدم إنجلز أي تصور عن الكيفية التي وضع بها الناس ذلك النظام في البداية. كما أنه لم يفسر السبب الذي حال دون ثورة الطبقات الكادحة في إنجلترا رغم عدائها للمجتمع القائم.

وهنا نجد أنه تتوجب علينا العودة إلى كارل ماركس من أجل الحصول على أجوبة لمثل هذه التساؤلات. فمن بين الأعمال المبكرة لماركس, والتي لم تحظ بالكثير من الشهرة, تعليق كتبه على إنجيل يوحنا. يجزم ماركس بأن "المسيحية, بصيغتها البروتستانتية على وجه الخصوص, هي الشيء الوحيد القادر على إعادة صنع حياة دمرتها الخطيئة."

ومن أجل فهم نقاط التضارب في فكر إنجلز, لا نحتاج إلى الذهاب إلى ما هو أبعد من الحقائق الإنجيلية التي بدأ بها ماركس عمله ككاتب ومنظر. وإننا إذ نفعل ذلك, لن نعثر على مجرد توصيف مطلق للاحتياجات الدنيوية, وإنما سنجد أيضاً دعوة للتوبة مع خارطة توضح الطريق المؤدية إليها. إذ أننا لو أردنا حقاً أن نحقق أي تغيير في العالم, فما علينا إلا أن نبدأ بتغيير أنفسنا تماماً كما جاء في وصية الرب.

المصدر : غير معروف