لوك.. مقدمة قصيرة جدا

عرض/ كامبردج بوك ريفيوز
جون لوك اسم لامع في تاريخ الفكر السياسي الغربي, ولا يخلو كتاب له علاقة بالعلوم السياسية من اسم هذا المفكر. لوك الفيلسوف والاقتصادي والمجادل العتيد (1632-1704) عاصر فترة حرجة ومهمة في تاريخ ميلاد النظام السياسي البريطاني الحديث.

undefined-اسم الكتاب: لوك.. مقدمة قصيرة جدا
المؤلف: جون دون
-عدد الصفحات: 132
-الطبعة: الأولى 2003
الناشر: أوكسفورد يونفرستي برس, أوكسفورد

وقد شهدت فترة حياته الحرب الأهلية وإعدام الملوك وإعلان الثورة وقيام الجمهورية، كما شهدت فترة تهدئة النزاع الديني الذي مزق البلاد منذ بداية الانفصال عن الكنيسة الكاثوليكية في روما (33-1534) وتحول بريطانيا من دولة ملكية مطلقة إلى دولة ملكية دستورية ذات حكومة محددة المهام والصلاحيات.

وتعتبر هذه المقدمة القصيرة التي كتبها جون دون عن فلسفة لوك السياسية والميتافيزيقية دليلا ممتازا يبين أسلوب التفكير الذي أصبح فيما بعد ركيزة الاستقرار السياسي البريطاني بعد العام 1688.

حق الفرد أم حق الملك
اشتغل فكر جون لوك في ظروف كانت أطرها العامة كالتالي: عندما تخلى الملك تشارلز الأول في عشرينيات القرن السابع عشر عن الثلاثية البرلمانية -التي كانت تجمع النواب واللوردات والملك وتمثل الرأي العام وتؤطر العملية التشريعية- وانحدر باتجاه الحكم الشخصي الفردي, أثار سؤالا ظل يشغل الفكر السياسي الإنجليزي ومن ثم البريطاني لحين البت النهائي في أمره عام 1688. وهذا السؤال هو: هل يملك الفرد الإنجليزي حق مقاومة الحكومة غير الشرعية أم أن عليه الالتزام بنظرية الحق الإلهي للملك بصفتها مبدأ نافذا وملزما? رد معظم المفكرين المعاصرين آنذاك وفي مقدمتهم فيلمر -الذي يستعرض المؤلف أفكاره بدقة في هذا الكتاب- بـ"لا" مجلجلة.


لعب جون لوك دورا بارزا في رفض نظرية الحق الإلهي للملك بصفتها مبدأ نافذا وملزما

فقد رأى فيلمر أن الأمراء يعتبرون ممثلي الله المختارين على الأرض، وكما أن الإنسان لا يملك جسده وليس له حق التصرف به كذلك الطاعة للملك التي ينبغي له تقديمها دونما تساؤل أو اعتراض. شعر معظم المعنيين بالسياسة في حينه بخطأ هذا المبدأ لكنهم لم يتمكنوا من وضع إصبعهم على موطن الخطأ. وكان على الاتجاه المعارض لهذه الفكرة وهو يسعى إلى استعادة الممارسة السابقة الأكثر ديمقراطية، أن يعلن التمرد أولاً ثم يبرر تمرده فيما بعد. وقد كان لجون لوك دور بارز ومدوٍّ في هذه العملية.

رأت المعارضة البرلمانية لحكم تشارلز أنها في الوقت الذي تقر فيه بحق تشارلز الموروث في الحكم فإن سلطة الملك لا تكون شرعية إلا ضمن الثلاثية البرلمانية. وبالعودة إلى وثيقة العهد الأعظم (1215) وما أقر منذ ذلك الحين في السابقات القانونية وإجراءات القوانين العامة فإن القرارات التي اتخذها الملك تشارلز مثل "أموال السفن" وغيرها من الامتيازات الضريبية كانت غير شرعية الأمر الذي يلزم التخلي عنها.

وقد حققت المعارضة البرلمانية بعملها هذا مأسسة المتطلبات التشريعية اللازمة لقيام برلمانات نظامية كانت في الماضي موضع اتفاق ضمني وأصبحت بعد هذا الموقف أساسا رسميا لممارسات ذات قوة قانونية. وكان ما أحدثه تشارلز في واقع الأمر هو إتاحة الفرصة لقيام أول توصيف قانوني للممارسة الدستورية. وهكذا ظهر أن للمواطن البريطاني الحق في مقاومة التشريع غير العادل.

على المستوى الديني, شهدت نهاية الحرب الأهلية ظهور محاولة البيوريتانيين أصحاب المذهب الطهراني في الاستفادة من التسوية الثورية لغرض استكمال الإصلاح الديني وإقامة مؤسسة دينية جديدة تستند إلى "البروتستانتية الربانية" الحقة، تعم كلمتها المملكة وتستبعد الكثلكة مرة وإلى الأبد من الجسم السياسي البريطاني. وفي كلا المجالين السياسي والديني حقق اللاعبون الرئيسيون إخفاقا كبيرا حيث شهدت فترة استعادة الملكية استمرار الحكم الاستبدادي والاعتباطي وسيادة الكنيسة الإنجليكانية.

استمر الجدل في الميدانين خلال أزمة الاستبعاد ولم يصل الحل النهائي إلا عند الإطاحة بالملك جيمس الثاني الكاثوليكي المذهب وهربه من البلاد وما تبع ذلك من وضع "لائحة الحقوق" عام 1688 ووضع الإطار الديني الذي توج في فترة لاحقة بإقرار التسامح الديني التام بين جميع المذاهب.


تميزت حياة لوك على امتداد سنواتها بالإيمان المسيحي الراسخ الذي وجه فلسفته وأسلوب تفكيره

فلسفة لوك السياسية
على هذه الخلفية من المعلومات يكتسب الكتاب موضوع المراجعة هنا معانيه الأوسع، فبعد استعراض حياة لوك يأخذنا المؤلف في استطلاع موجز وبارع لفلسفته السياسية. هنا يوضح المؤلف الكيفية التي أثبت بها لوك شرعية الملكية الفردية وهزم بها نداءات الراديكاليين من دعاة التساوي والديمقراطية. لكنه أثبت في الوقت نفسه مبدأ الحقوق الفردية ومفهوم المجتمع المدني، وهي المبادئ التي تسمح للأفراد بمقاومة التشريعات غير العادلة.

وباختصار يمكن القول إن لوك السياسي أقر بأن السلطة ضرورية, لكنه أقر مقابل ذلك بامتلاك الرعية لحق التمرد على التشريع غير العادل. ويوضح المؤلف نظرية لوك السياسية على نحو ممتاز, لكن هذا الكتاب التعريفي يظل في حاجة إلى تبيان ما إذا كان لوك قد توصل إلى نتائجه على نحو مستقل, أم أن ما شهدته إنجلترا من أحداث في أربعينيات القرن السابع عشر وأزمة الاستبعاد التي تبعت ذلك قد كان لها تأثيرها على مسار تفكيره, خاصة أن ما استقر عليه هذا المسار لا يبتعد كثيرا عن النتيجة النهائية التي توصل إليها عند وضع "لائحة الحقوق" والآراء التي ضمنتها وثيقة "معاهدتي الحكومة" للعام 1690.

لقد تميزت حياة لوك على امتداد سنواتها بالإيمان المسيحي الراسخ الذي وجه فلسفته وأسلوب تفكيره. ويقوم الكثير من ركائز تلك الفلسفة مثل إيمانه بوجود "حقوق الإنسان" والحاجة إلى طاعة السلطة الشرعية, على يقينه بوجود الرب الذي "يرى الإنسان في الظلام".

ومن هنا فإن أول ما تصدر قائمة اهتمامات لوك كان تحقيق التسامح الديني, معتبرا أن الخلاص الروحي ينبغي أن يقوم على ترك الأفراد ليقرروا بأنفسهم في نهاية المطاف الطريقة التي يرشدهم بها الكتاب المقدس لتحقيق ذلك الخلاص, سواء كان ذلك عن طريق العمل الصالح أم برحمة من الله.

غير أن أهم ما يتناوله الكتاب هو موضوع الفصل الثالث الأخير الذي يتعلق بالكيفية التي يستطيع بها الإنسان ادعاء امتلاك المعرفة. لم يخش لوك ذو الإيمان الراسخ الثورة العلمية التي قادها على أيامه نيوتن وهوك. بل إنه آمن بأن الحقيقة كما يوضحها الكتاب المقدس تقضي بأن يستخدم العلم للكشف عن وجوه جديدة في معرفة ما خلقه الله.

وقد اعتبر لوك دوره في هذا المجال مساويا لدور العامل اليدوي الذي "يزيح شيئا من النفايات التي تسد الطريق إلى المعرفة"، وقد كان شديد الحرص على تعريف طبيعة المعرفة لأنه اعتبر أن فهم الأساس الذي يستند إليه الادعاء بامتلاك المعرفة ضروري للتعامل مع التقدم الذي تحققه العلوم الحديثة بدلا من اتخاذ موقف التحفظ إزاءها والخوف مما يمكن أن تقود إليه.

معتقدات لوك الدينية
بعد أن قام بتعريف ثلاث صيغ للمعرفة، المعرفة البدهية والمعرفة الإثباتية والمعرفة الحسية, جادل لوك بأن الثقة تتجاوز كل هذه الأنواع الثلاثة. قام أولا بتثبيت الثقة كشرط ضروري لحياة المجتمع المدني, وأظهر أن بعض الأمور ينبغي أن تكون موضع ثقة الفرد وأن يضع الفرد ثقته بها تماما كما يضع ثقته في الله. لاحقا تعرضت هذه النظرية لانتقاد عنيف من قبل هيوم وبقية مفكري عصر التنوير.


أفعال الإنسان ومعتقداته تحكمها مشكلة متجذرة في الطبيعة الشريرة لقلب الإنسان, وعدم الإيمان هو تردي الإنسان والسقوط في الخطيئة

لكنها ظلت مستعصية على الدحض داخل إطار فكر لوك، ربما كان لأحد اتباع هيوم أن يجادل بأن شروق الشمس ليس إلا احتمالا لا يمكن للمرء الركون إليه. لكننا نرى أن الشمس تشرق كل يوم, ومن خلال وجود الغابات المعمرة على مدى آلاف السنين التي ما كان لها أن تعيش دون الشمس يمكننا أن نثبت أن الشمس قد واظبت على الشروق كل يوم منذ بداية الزمان.

وهكذا يمكننا أن نتأكد بالبداهة من أن الشمس ستشرق غدا. ونحن في هذه العملية نضع ثقتنا بالقوانين الفيزيائية التي تجعل الشمس تشرق والتي ظلت نافذة على مدار الزمن منذ أول شروق للشمس، وسوف تظل نافذة يوما بعد آخر. فإذا كنا نثق بهذا الأمر, كما نثق بأمور كثيرة غيره سواء كانت مرئية أم غير مرئية، فلماذا إذن لا نثق بوجود الله كحقيقة مطلقة?

ينظر لوك إلى هذه المعادلة بشكل معكوس، فهو لا يستطيع أن يتصور حالة عدم الثقة بالله التي لا تقود -في نظره- إلا إلى الأنانية وانعدام الأمان, لأن الإنسان عند ذاك "سيصبح إله نفسه وسيصبح إرضاء نزعاته وإنفاذ إرادته المقياس الوحيد والغاية النهائية لكل أعماله".

مرة أخرى, وعلى ضوء ما توصل إليه لوك يشعر القارئ بأن إضافة شيء من المعلومة عن طبيعة معتقدات لوك الدينية كانت ستغني الكتاب على نحو أفضل. فهناك مثلا مفهوم لوك عن "الخطيئة" وطريقة فهمه لها، إذ يقضي الكتاب المقدس بأن عدم الإيمان سببه "الخطيئة"، وكما منح السيد المسيح البصر للأعمى فإن مشيئة الله ومحبته هي التي تفتح العيون على وجوده. وإذا أردنا استعارة عبارة غلادستون الذي كان هو أيضا من دعاة السياسة المسيحية وآمن بأن أفعال الإنسان ومعتقداته تحكمها مشكلة متجذرة في الطبيعة الشريرة لقلب الإنسان, فإن عدم الإيمان هو "تردي الإنسان والسقوط في الخطيئة.. في حمأة خبث الخطيئة وسوأتها".

وقد كان بوسع المؤلف أن يلقي الضوء على أسس فكر لوك لو أنه تابع -ولو بإيجاز- النقاط التي يلتقي بها لوك مع خليفته غلادستون الذي تولى رئاسة الوزارة في العصر الفيكتوري.

وهكذا يمثل الكتاب مقدمة للتعريف بلوك ويعرض سيرته في الفصل الأول على نحو مُرضٍ، كما يوضح القضايا التي تبناها في الفصلين اللاحقين المتعلقين بفلسفته. لكن القارئ مضطر إلى البحث في أماكن أخرى عن تناول أعمق للطريقة التي تشكلت بها أفكار لوك وللمرتكزات الشخصية والتاريخية التي قام عليها إطاره الفكري. إنه كتاب ممتاز, لكنه يترك في الآن ذاته الكثير من الأسئلة دون جواب.

المصدر : الجزيرة