صدى الحداثة

عرض/ إبراهيم غرايبة
يناقش هذا الكتاب الفكر الغربي ضمن سياقه التاريخي للنظر في أزمة الحداثة وما بعدها والبحث عن أصولها الفكرية، ويتتبع الخلفيات التاريخية التي سبقت مقولة "صدام الحضارات" والظروف التي منحتها وهجها وجاذبيتها، ويتعرض لمقولة حوار الحضارات التي طرحت بديلا للصراع، وأهمية هذه المصطلحات بعد 11 سبتمبر/ أيلول 2001.


undefined-اسم الكتاب: صدى الحداثة
–المؤلف: رضوان جودت زيادة
-عدد الصفحات: 207
-الطبعة: الأولى 2003
الناشر: الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي

من أزمة الحداثة إلى فوضى ما بعدها
يجد الباحث الأميركي المصري إيهاب حسن أحد منظري ما بعد الحداثة أن الإسباني فيدريكو دي أونيس يعتبر أول من استخدم هذا المصطلح وذلك في كتابه "أنثولوجيا الشعر الإسباني والإسباني/الأميركي" الصادر عام 1934، ثم التقطه دولي فيتس في كتابه "أنثولوجيا الشعر الأميركي اللاتيني المعاصر" الصادر عام 1942، وكان كلاهما يشيران إلى رد فعل ثانوي على الحداثة وقائم في داخلها، وهو مصطلح نشأ في حقل النقد الأدبي، ثم وظف في حقول المعرفة الأخرى كالاجتماع والسياسة والتحليل النفسي والألسنية والاقتصاد والدين والعمارة.

ويعتبر كثيرون أن العمارة هي أكثر حقول المعرفة التي طرحت فكرة التجديد وسؤال ما بعد الحداثة والدعوة إلى تحولات في الحياة الاجتماعية لتكون بديلا عن الثورة السياسية.

وكتب جين جاكوبز كتابا بعنوان "موت المدن الأميركية الكبيرة وحياتها" نشر عام 1961 وتنبأ فيه بنزعة حضرية جديدة ترى أن المساحات الحضرية التي أنشأتها الحداثة كانت نظيفة ومنظمة من الناحية المادية، أما اجتماعيا وروحانيا فهي إلى الموت أقرب، والضجيج والصخب وزحام القرن التاسع عشر هو وحده الذي أبقى على الحياة الحضرية المعاصرة.

ويعلق مارشال بيرمان في كتابه "كل ما هو صلب يتحول إلى أثير" بقوله إن "كل هذا يوحي بأن الحداثة تحتوي على تناقضاتها الداخلية الخاصة بها وبأن أنماط الفكر التي تنتمي إلى الحداثة قد تتحول إلى سلفية جامدة ويصيبها التقادم وبأن أنماطا من الحداثة قد تحتجب لأجيال طويلة دون أن تخلف أنماطا بديلة وبأن أعمق جراح التحديث الاجتماعية والنفسية قد تلتئم دون أن تشفى شفاء حقيقيا. إن الرغبة المعاصرة لقيام مدينة لها متاعبها ولكن تتميز بالحيوية والحياة تعد رغبة لنكء الجراح القديمة الجديدة، إنها رغبة في الحياة الحرة الطليقة واستعادة الحيوية من صراعاتنا الداخلية مهما كانت النتيجة، وإذا كنا تعلمنا في نمط واحد من الحداثة كيف نبني الهالات حول المساحات وحول رؤوسنا فقد نتعلم من نمط آخر منها كيف نفقد هالاتنا ونجد أنفسنا من جديد".

وربما يصلح اقتباس مثال معبر عن تعاقب الحداثة وما بعدها بكعكة دائرية تحتوى على فراغ في وسطها، فتآكلت الكعكة وتلفت وبقي الفراغ، فهي (ما بعد الحداثة) تعبير عن فشل الحداثة ونظرياتها في تقديم تفسير كلي للمجتمع، ولكن ما بعد الحداثة تستمد مشروعيتها وجدواها واسمها من الحداثة.


حرب الخليج الثانية من أهم تطبيقات حروب ما بعد الحداثة فهي الحرب التي سوقتها أجهزة الإعلام ووسائل الإقناع "ما فوق الواقعية" التي ساهمت في توفير إحساس واهم بالتغطية الموضوعية والتدفق الهائل الذي يهمش الرأي الآخر ويسكته تماما

مجتمع ما بعد الحداثة
يربط مفكرون بين فكر ما بعد الحداثة والتحولات المجتمعية التي تجري في مرحلة ما بعد الصناعة أو المجتمع المعلوماتي وأحيانا يسمى المجتمع الاستهلاكي، ولذلك فإن النزاعات الاجتماعية الجديدة مرتبطة أيضا بالتحولات الاقتصادية الجارية، وهذا يعني بالضرورة التخلي عن المفاهيم والأدوات السابقة في تحليل المجتمعات، مثل مفاهيم الطبقة الاجتماعية والصراع الطبقي، فـ"ما بعد الحداثة" تعبر عن النظام الاجتماعي الجديد للرأسمالية في مرحلتها المتقدمة، ومن مظاهرها منظمة التجارة العالمية والعولمة والشركات المتعددة الجنسية، والواقع الجديد المبني على وسائل الاتصال والإعلام.

وتعتبر حرب الخليج الثانية -وبالطبع حرب أفغانستان وحرب العراق- من أهم تطبيقات حروب ما بعد الحداثة، فهي الحرب التي سوقتها أجهزة الإعلام ووسائل الإقناع "ما فوق الواقعية" التي ساهمت في توفير إحساس واهم بالتغطية الموضوعية والتدفق الهائل الذي يهمش الرأي الآخر ويسكته تماما.

فالتطور التقني والمعلوماتي عمد باستمرار إلى تغييب الواقع وإخفائه وتجاوزه لصالح واقع افتراضي يجري بسرعة تتعدى قدرة الإنسان على استيعابها وتوصيفها، وكأن ثمة ماكينة للإبصار تحل محل وعينا وإدراكنا وستقوم بهذه المهمات نيابة عنا، ما يدفع الإنسان للتخلي طواعية عن وسائل إدراكه وأن يعدم الثقة بحواسه الطبيعية، فلا يقتنع بما تراه عيناه وإنما بما تعرضه تقنيات المعلومات، وتنتفي هنا القيمة الإستراتيجية للمكان لحساب الزمن، فلم يعد مجديا الفصل بين الماضي والحاضر والمستقبل، ويكون ثمة زمنان: زمن البث المباشر وزمن البث اللاحق، فالمستقبل تلاشى في برمجة الحواسيب من جهة وفي تزييف الزمن الموسوم بالواقعية من جهة أخرى.

وقد تقدم كرستوفر نوريس في كتابه "ما بعد الحداثة والمثقفون وحرب الخليج" بنقد لهذه المفاهيم والتصورات معتبرا أنها تسقطنا في عالم من الوهم والشك واللايقين.


ما بعد الحداثة مفهوم من أهم ميزاته أنه غير متبلور وغير قابل للتعريف لأن في التعريف صرامة هو يرفضها ولأن بلورة المفهوم تفترض إنجازا سابقا وهو ما سعى لتحطيمه

الحداثة وما بعد الحداثة
تبدو مهمة التمييز بين الحداثة وما بعد الحداثة بالغة الصعوبة، ففي الأدب تعتبر الأعمال حداثية ويعتبرها البعض الآخر ما بعد حداثية، وربما تكون مقارنة الناقد الأميركي جون بارث بين أدب الحداثة وأدب ما بعد الحداثة هي الأكثر وضوحا أو الأسهل فهما، إذ يعتبر أن أدب الحداثة قام على تفضيل التجربة الشخصية والذاتية على حساب العامة، وأكد على النزعة المجازية في مقابل الكناية، وعلى اللاشعبية بالنسبة للرواية الحديثة، ما يعني ضمنا الاعتماد على المفسرين والشارحين وقناصي الشوارد ليكونوا وسطاء بين النص والقارئ. أما أدب ما بعد الحداثة فقد انتقل بالرواية إلى مستوى أعلى من المماحكة النظرية بين الواقعية واللاواقعية والشكلانية والمضمونية والأدب المجرد والأدب الملتزم ورواية النخبة والرواية الشعبية، أما حبكة الرواية فيمكن الحصول عليها في صيغة اقتباس من حكايات أخرى، والاقتباس قد يكون أقل نزوعا إلى الهرب من الحبكة المقتبس منها.

ويقول منظر ما بعد الحداثة إيهاب حسن إنه ليس ثمة ستار حديدي يفصل بين الأدبين، لأن الثقافة منفذة للزمن الماضي والحاضر وللزمن المستقبلي، وبوسع المؤلف أن يكتب عملا حداثيا وما بعد حداثي في نفس الوقت مثل جيمس جويس في رواية "يقظة فنيغن".

فما بعد الحداثة ليس مجرد مصطلح يصلح تطبيقه على كل أدب مغرق في الألغاز والأحاجي، وإنما هو مفهوم من أهم ميزاته أنه غير متبلور وغير قابل للتعريف، لأن في التعريف صرامة هو يرفضها، ولأن بلورة المفهوم تفترض إنجازا سابقا وهو ما سعى لتحطيمه، إنه مفهوم يكفل له التاريخ والتحول الاجتماعي نصوعه وجلاءه، وكما كان أدب الحداثة نبوءة لتحول جديد، سيخترق أدب ما بعد الحداثة زمنه ليبشر بولادة تاريخ جديد.


أعطت أحداث 11 سبتمبر أبعادا جديدة لصراع الحضارات، أو جعلتها حقيقة واقعة يصعب نفيها وتحولت إلى حرب وصراع ربما يشبه الصراع الغربي الشيوعي الذي بدأ بالتشكل بعد الحرب العالمية الثانية

صراع الحضارات/ حوار الحضارات
كانت بداية الحديث عن صراع الحضارات بمعنى الصدام لدى الفكر الألماني في أيام الاشتراكية الوطنية والمعروفة باسم النازية، وسادت النظريات التي جعلت الصراع محور بنائها النظري في فترة الأربعينيات والخمسينيات مثل صراع الطبقات وصراع الأمم، وألقى المؤرخ المشهور أرنولد توينبي عام 1947 سلسلة من المحاضرات بعنوان "الصراع بين الحضارات"، وعلى هذه المحاضرات بنى هنتنغتون مقالته التي نشرت في مجلة فورن أفيرز عام 1993 بعنوان "صراع الحضارات"، ذلك المقال الذي حظي بردود فعل ونقاش واسع لم يتوقف حتى اليوم.

يعتبر توينبي أن من أهم حوادث التاريخ اصطدام الحضارة الغربية بسائر المجتمعات الأخرى القائمة في العالم، فقد كان ذلك بداية توحيد العالم في مجتمع واحد، وينظر توينبي إلى تاريخ الحضارات على أنه صراع، وأن هذه الحضارات قائمة على الدين كمعتقد رئيسي ومرجع أساس في قيام الحضارة.

ويقابل توينبي وهنتنغتون دعوات للحوار ومواجهة المركزية الغربية مثل غارودي وليفي شتراوس وميشيل فوكو وجاك دريدا، فيعتبر غارودي أن حوار الحضارات هو مشروع على مستوى الكوكب الأرضي من أجل ابتداع المستقبل وابتكار مستقبل الجميع بمشاركة الجميع.

وقد أعطت أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 أبعادا جديدة لصراع الحضارات، أو جعلتها حقيقة واقعة يصعب نفيها، وتحولت إلى حرب وصراع ربما يشبه الصراع الغربي الشيوعي الذي بدأ بالتشكل بعد الحرب العالمية الثانية.

وربما تكون أحداث سبتمبر قد أسست لعلاقات دولية عبر قومية تتجاهل الدول والسيادات الوطنية، بل واعتبار بعض الدول برمتها كالمجرمين الخارجين عن القانون "الدول المارقة"، وانتهت الإنجازات الإنسانية التي كان يؤمل أن تتحول إلى مشروعات عالمية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية البشرية ومكافحة المرض والفقر والتلوث.


العولمة بصيغها المختلفة تحمل بداخلها نزعة مركزية غربية تتيح للثقافة الغربية أن تعربد في المحافل الدولية لتفرض سيطرتها دون منازع، وتهمش الثقافات الأخرى وتجعلها فنونا شعبية قديمة

نهاية الدولة
تمر الدول بأسوأ أزماتها، فهي يعتريها الضعف من جميع أوجه أدائها، وتنافسها اليوم المؤسسات الدينية والدولية والشركات، وهي في الوقت نفسه تزيد الضرائب على الناس دون أن تقدم لهم الالتزامات التي كانت تفي بها من قبل.

العولمة هي التعبير الشائع والمستخدم للتعبير عن المرحلة الجديدة التي تواجه فيها الدولة أزمتها، فتحرير التجارة والربط المتزايد للأسواق وازدهار التكنولوجيا وتطور وسائل النقل وانخفاض تكلفة النقل جعل فرص تجاوز الدول والأقاليم في العمل والإنتاج سهلة، فرؤوس الأموال تنساب عبر الحدود وكذلك التقنية والخبرات وأدوات الإنتاج بسرعة وسهولة.

والأمر يتعدى ذلك بكثير، فصناعة سيارات مرسيدس الألمانية على سبيل المثال تتم في 24 بلدا، حيث يصنع في كل بلد أجزاء من السيارة حسب توافر الموارد واليد العاملة: الإطارات والهياكل والشرائح الإلكترونية والزجاج.

ويجري طبقا لذلك وصف نظام اجتماعي جديد ينشأ على الصعيد الكوكبي، فلا موضع لإنتاج وطني أو تكنولوجيا وطنية أو شركة وطنية حتى اقتصاد وطني أو مسؤولية، وذلك يقلل من قوة المطالب التي توجه إلى السياسة لإعادة تعريف الهوية الجماعية والتأصيل الاجتماعي والقيم المعنوية.

إن العولمة بصيغها المختلفة تجعل العالم أكثر بؤسا وكآبة، وتحمل بداخلها نزعة مركزية غربية تتيح للثقافة الغربية أن تعربد في المحافل الدولية لتفرض سيطرتها دون منازع وتهمش الثقافات الأخرى وتجعلها فنونا شعبية قديمة.

وقد تتحول -وثمة مؤشرات على تحقق ذلك بالفعل- دول إلى صندوق قمامة للنفايات الصناعية وحقول للتجارب من كل نوع وساحات للمتعة المحرمة مثل دعارة الأطفال وملاجئ للمهربين يمكن للجميع استخدامها وتتعذر السيطرة عليها.

خطاب العنف
هل يمكن السيطرة على العنف؟
يحلم بعض الفلاسفة وعلماء القانون أن يحل الحوار محل العنف وأن يخضع العنف لسلطان العقل، ويرى آخرون ذلك خدعة من خدع القانون تتطور إلى عنف، فالعنف ملازم للطبيعة يصعب إلغاؤه، ولكن يمكن السيطرة عليه واحتواؤه.

وانتشار ثقافة الطاعة كما في الجيش على سبيل المثال يساعد على تصاعد أعمال العنف، وقد تساعد برأي لجنة إدارة شؤون العالم التي كونتها الأمم المتحدة ونشرت تقريرا في كتاب عنوانه "جيران في عالم واحد" وسائل الإعلام والجهود المختلفة التي يمكن أن يتحملها كل فرد على نشر ثقافة اللاعنف.

ويمكن أن يكون اللاعنف وسيلة للمقاومة كما في تجربة غاندي التحررية التي مكنت الهنود من تحرير بلادهم من الاستعمار البريطاني، وفي الولايات المتحدة استطاع الزنوج بقيادة مارتن لوثر كينغ بحركات اللاعنف من إدراك أوضاعهم والتحرك نحو حقوقهم، وجدير بالذكر أن كلا من غاندي ومارتن لوثر كنغ ماتا مقتولين ضحية للعنف.

المصدر : الجزيرة