دفاع عن الإنسان

عرض/ نشوة نشأت
الإنسان ظاهرة فريدة مركبة، وكل إنسان فرد له نتوؤه وتعرجاته وأسراره ومنحناه الخاص الذي يميزه عن بقية الجنس البشري. وبرغم الإيمان بأن ثمة عناصر إنسانية مشتركة تجمعنا، فإن هذا لا يعني رفض الخصوصيات الإنسانية المختلفة. وهذه التركيبة الإنسانية التي لا حدود لها هي ما يميز الإنسان عن الكائنات الطبيعية المادية، ويفصله عن عالم الطبيعة.


undefined-اسم الكتاب: دفاع عن الإنسان
–المؤلف: د. عبد الوهاب المسيري
-عدد الصفحات: 367
-الطبعة: الأولى أكتوبر 2003
الناشر: دار الشروق

لكن هناك من يرى أن الإنسان جزء لا يتجزأ من الطبيعة، ومن ثم فإن القوانين الطبيعية الكامنة في المادة تسري عليه، ويمكن دراسته من خلال نفس المناهج المستخدمة في دراسة الظواهر المادية ويختزلون الإنسان في عنصر واحد أو عنصرين ويسقطون كثيرا من الأبعاد المركبة التي تميزه عن غيره من الكائنات، وهم بإنكارهم تركيبته ينكرون إنسانيته.

غير أن د. عبد الوهاب المسيري في كتابه "دفاع عن الإنسان" يستخدم في مقابل هذه النماذج التحليلية المادية الاختزالية نماذج مركبة يدخل في تركيبها عددا من العناصر المتنوعة المتداخلة بل والمتناقضة منها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والديني والحضاري، ومن ثم يمكن الإحاطة بمعظم جوانب الظاهرة الإنسانية.

ويرى أن استخدام هذه النماذج هو تعبير عن احترام إنسانية الإنسان وتركيبيته، فهو في نهاية الأمر دفاع عن الإنسان ضد النزعات المادية التي تحاول تفكيكه ورده إلى ما هو دونه، أي قوانين المادة وحركتها.

الجماعة الوظيفية
وتبرز من بين هذه النماذج التحليلية المركبة نماذج ثلاثة طورها المؤلف وهي: الجماعة الوظيفية، والحلولية، والعلمانية الشاملة. وتشترك تلك النماذج في القول إنه لا يمكن فهم أي ظاهرة إلا بوضعها في سياقاتها الاقتصادية والتاريخية والاجتماعية والثقافية والدينية المختلفة.

ويقصد بالجماعة الوظيفية مجموعات بشرية تستجلبها المجتمعات الإنسانية من خارجها في معظم الأحيان أو تجندها من بين أعضاء المجتمع أنفسهم من بين الأقليات الإثنية أو الدينية أو حتى بعض القرى أو العائلات، ثم يوكل لهذه المجموعات وظائف شتى لا يمكن لأفراد المجتمع الاضطلاع بها كمهن التجارة في المجتمعات التقليدية القائمة على التراحم، في حين أن التجارة تتطلب قدرا عاليا من الحياد والموضوعية وتتطلب إخضاع الآخر لقوانين العرض والطلب، أو كالمهن الشائنة كالبغاء، فلا بد من الانفصال عن المجتمع لمن يمارس هذه المهنة حتى يمكن حوسلته (أي يتم تحويله إلى وسيلة) بحيث يصبح الجسد مجرد آلة أو أداة لا حرمة لها ولا قداسة.

كما تنشأ الجماعة الوظيفية لتقوم بدور مادة بشرية محاربة للقيام بأعمال الغزو والتوسع ممن لديهم مهارات بشرية غير متوافرة في المجتمع المحلي، كما قد يستجلبون للاستيطان في مناطق إستراتيجية تريد إمبراطورية معينة تعمرها، لكنها لا تمتلك الكثافة البشرية اللازمة، وقد تريد النخبة الحاكمة استغلال الجماهير، ولا يمكن أن تقوم بهذه المهمة مباشرة فيقوم أعضاء الجماعة الوظيفية بهذه المهمة.

اليهودي الوظيفي


لعب أعضاء الجماعات اليهودية الدور الوظيفي بحيث أًصبح اليهودي هو الإنسان الوظيفي، والدولة الصهيونية دولة وظيفية فهي تخدم الغرب نظير قيامه بحمايتها

وتتسم الجماعات الوظيفية بأن المجتمع يقوم بعزلهم عن طريق الزي أو المسكن أو اللغة أو العقيدة، ويشعر أعضاؤها بالغربة وبالولاء العميق للنخبة الحاكمة لأنها هي التي استوردتهم وتوظفهم وتستخدمهم كأداة لقمع الجماهير.

كما ينفصل أعضاء الجماعة عن الزمان والمكان اللذين يعيشون فيهما ومن ثم قد يرتبطون عاطفيا بوطن أصلي (صهيون، الصين،.. إلخ) ويصبح لديهم إحساس عميق بهويتهم المستقلة (مركب الشعب المختار المنقى أو الشعب العضوي المنبوذ). لكن الجماعة الوظيفية (والوظيفة ذاتها) هي في واقع الأمر موضع الولاء الفعلي والمباشر لعضو الجماعة فهي أساس وجوده وهويته.

ومعجمهم الحضاري لا يختلف عن معجم مجتمع الأغلبية إلا في بعض التفاصيل الخاصة، فهم آلة ولا وطن لها، ولكنهم يعيشون فعلا في المجتمع المضيف ويؤدون وظيفتهم فيه بشكل يومي ومن ثم فإن هويتهم وهمية. وقد لعب أعضاء الجماعات اليهودية دور الجماعات الوظيفية بحيث أصبح اليهودي هو الإنسان الوظيفي. والدولة الصهيونية هي دولة تتسم بكل سمات الجماعة الوظيفية، فهي تدخل في علاقات تعاقدية نفعية مع الغرب لخدمة المصالح الغربية نظير قيامه بحمايتها.

الإسفنجية
وتسارعت مع العصور الوسطى عملية تحويل الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية في الغرب، خاصة ما يسمى بأقنان يهود البلاط الذين كانوا أداة في يد الحاكم لاستغلال سائر طبقات المجتمع، فكان اليهود يمتصون الثروات والأموال من المجتمع ثم يقوم الملك بعد ذلك باعتصارهم عن طريق الضرائب الباهظة وبيع المزايا له.

ومن هنا تشبيه أعضاء الجماعات اليهودية بالإسفنجة التي تمتص الماء ثم تفقده بالضغط عليها. وكان اليهود يستخدمون رأس المال الربوي كأداة الاستغلال، ولذا كانوا مكروهين من الجماهير بوصفهم أداة الاستغلال المباشرة، ومن البرجوازية المحلية لأنهم يشكلون غريما لها، ومن النبلاء لأنهم كانوا أداة في يد الملك يستخدمها لتدعيم نفوذه على حسابهم.

ومع ضم بولندا لأوكرانيا عام 1569 وقع تحت تصرف النبلاء البولنديين مساحات ضخمة من الأراضي الزراعية كانوا في حاجة إلى رأس مال ضخم لاستثماره لإداراتها، وأصبح اليهود هم وكلاء النبلاء في هذه الأراضي الجديدة، وأصبحوا العنصر البشري الاستيطاني الغريب الذي يشكل همزة الوصل بين النبلاء والفلاحين في أوكرانيا.

الفكر المشيحاني
يشير الفكر المشيحاني إلى أن هناك شخصا مرسلا من الآلهة يتمتع بقداسة خاصة، إنسان سماوي، وكائن معجز خلقته الآلهة قبل الدهور، يبقى في السماء حتى تحين ساعة إرساله وهو نقطة الحلول الإلهي المكثف الكامل في إنسان فرد، وسيأتي ليعدل مسار التاريخ اليهودي بل والبشرى فينهي عذاب اليهود ويأتيهم بالخلاص.

وقد أدى ظهور النزعة المشيحانية بين الجماعات اليهودية ومع تطور المجتمعات الغربية وظهور النظام المصرفي الحديث والدولة القومية المركزية، ومن ثم فقدت كثير من الجماعات اليهودية الوظيفية وظائفها كتجار ومرابين وتزايد بؤس أفراد هذه الجماعات وفقرهم وعدم استطاعتهم التكيف مع التطور الذي شهدته أوروبا في عصر النهضة.

وبالتالي زادت هامشيتهم وزاد الاضطهاد الواقع عليهم، ومن ثم ففي أوقات البؤس والضيق كانت الجماهير اليهودية تتذكر دائما الرسول الذي سيبعثه إله الطبيعة والتاريخ ليصلح أحوالهم. وتعد حركة شبتاي تسفي أهم الحركات المشيحانية التي هزمت اليهودية الحاخامية من جذورها حتى لم تقم لها قائمة بعد ذلك، وهو ما مهد الطريق لظهور الحركة الصهيونية التي ترفض القيود الدينية وترفض الأوامر والنواهي وتعلي الذات القومية.

معاداة السامية


من أهم الأسباب التي أدت إلى ظهور العداء لليهود ظهورهم في صورة الجماعة الوظيفية القتالية والتجارية واستخدام النخبة الحاكمة لهم فهم سوط في يد الحاكم أو هكذا كان المحكمون يرونهم

معاداة السامية تعني العداء للجنس السامي الذي يشكل العرب أغلبيته العظمى. ويعود هذا المصطلح إلى الفكر العنصري الغربي الذي كان يرمي إلى التمييز الحاد بين الحضارات والأعراق.

ومن الأفضل استخدام مصطلح معاداة اليهود واليهودية لأنه أكثر دقة ودلالة وحيادا ولا يحمل أي تضمينات عنصرية. ويفسر الصهاينة معاداة اليهود بأنها تعود إلى كره الأغيار لليهود عبر العصور، لكن هذا التفسير من العمومية بحيث لا يفسر شيئا ألبتة.

ومن أهم الأسباب التي أدت إلى ظهور العداء لليهود هو ظهورهم في صورة الجماعة الوظيفية القتالية والتجارية واستخدام النخبة الحاكمة لهم لاستغلال الجماهير أو لكبح جماحها، فهم سوط في يد الحاكم أو هكذا كان المحكمون يرونهم. ومن ثم كانت الهجمات عليهم تمثل جزءا من تمرد الجماهير على عملية الاستغلال.

وهذا التفسير ينطبق بالأساس على الجماعات اليهودية في العالم الغربي كما ينطبق على كثير من الأقليات الأخرى. لكن الصهاينة يقومون بعزل ظاهرة العداء لليهود عن الظواهر المماثلة أو المختلفة في المجتمع، وبهذا يصبح هذا الاضطهاد شيئا فريدا غير مفهوم ويصبح عداء الأغيار لليهود أمرا ثابتا.

التوراة وألف ليلة وليلة
ويمكن القول إن معظم القوالب الاختزالية التي يستخدمها المعادون لليهودية تخبئ رؤية صهيونية فهي تفترض أن اليهود يكونون كلا واحدا متجانسا، وأنهم أينما وجدوا في أي مكان أو زمان يشكلون وحدة مستقلة عما حولهم ويتمتعون باستمرارية في حياتهم، وأن لهم خصوصيتهم اليهودية التي تتبدى في طعامهم وشرابهم وزيهم ولغتهم، وأن الدولة الصهيونية يهودية نبعت من التوراة والتلمود.

لكن المعروف أن مؤسسي الحركة الصهيونية كانوا ملاحدة، وهرتزل كان لا يعرف الشعائر اليهودية وانصرف الحاخام الذي جاء لعقد زواجه دون أن يستكمل مهمته لأنه وجد أنه لا يمكن عد هرتزل يهوديا، كما أن بن جوريون كان يرى أن التوراة ليست أحد كتب اليهود المقدسة بالمعنى الديني وإنما هي كتاب فلكور الشعب اليهودي شأنه شأن السيرة الهلالية وألف ليلة وليلة بالنسبة للعرب.

والأدهى والأمر أن هذا النموذج لا يفيد كثيرا من الناحية العملية، فأصحابه ابتداء يرون أن الصهيونية ومن ثم عداءنا لإسرائيل مصدره نزعة اليهود الشيطانية.

واستنادا إلى هذه الرؤية المخيفة قد ينجح نموذج المؤامرة في مراحله الأولى في تخويف الجماهير وتوليد العداء للصهاينة بل وفي تجنيدها ضده، ولكن بعد قليل ستجابه الحقيقة المرة وهي أن الناس يصدقون ما يبشر به هو نفسه وهو أن اليهود شياطين قوة لا تقهر أو أنهم يحكمون العالم وأن أيديهم الخفية موجودة حقا في كل مكان، ومن ذا الذي يريد التصدي لقوة هائلة مثل هذه التي "تشبه القضاء والقدر" وتحكم العالم بأسره وتمتد أيديها الخفية لكل مكان؟

العبقرية اليهودية


لو رصدنا العبقرية اليهودية بشكل مطلق بمعزل عن أي سياقات تاريخية أو اجتماعية كما يفعل الصهاينة فإننا سوف نكتشف أن العبرانيين وأعضاء الجماعات اليهودية لم يؤدوا دورا كبيرا في تطوير الحضارة الإنسانية

كذلك فإن الرد على القول إن اليهود عباقرة بطبيعتهم يتطلب أن نعود إلى التقاليد الحضارية والظروف التاريخية التي شكلت فكر ووجدان كل من موسى بن ميمون وفرويد وإنيشتين وغيرهم. وإلا فلماذا لم يظهر علماء طبيعة متفوقون تفوق أينشتاين بين يهود الفلاشا الإثيوبيين؟

وحتى لو رصدنا العبقرية اليهودية بشكل مطلق بمعزل عن أي سياقات تاريخية أو اجتماعية كما يفعل الصهاينة، فإننا سوف نكتشف أن العبرانيين وأعضاء الجماعات اليهودية لم يؤدوا دورا كبيرا في تطوير الحضارة الإنسانية، بل إن فرويد وماركس وكافكا ومعظم عباقرة اليهود قد حققوا إبداعهم عن طريق الانسلاخ الفعلي أو المجازي عن مورثهم اليهودي وعن طريق الانخراط في الحضارة العلمانية الغربية الحديثة.

إبادة اليهود
ثمة عناصر تسم التشكيل الحضاري الغربي الحديث جعلت الإبادة كامنا فيه وليست مسألة عرضية، وقد قام الإنسان الغربي بعملية الإبادة النازية وغيرها من عمليات الإبادة لا على الرغم من حضارته الغربية وإنما بسببها!!.

وقد طورت الرؤية الغربية الحديثة للكون رؤية للبشر بحسبانهم مادة بشرية يمكن توظيفها، أما من لا يمكن توظيفه فكان يشار إليه بحسبانه مادة بشرية فائضة وأحيانا غير نافعة ولا بد من معالجتها, فهي إما تصدر وإما أن تعاد صياغتها وإما أن تباد إن فشلت معها كل الحلول السابقة. وفى هذا الإطار يمكن فهم الإبادة النازية لليهود ولغيرهم من الجماعات غير النافعة.

المصدر : الجزيرة