حالم بفلسطين

عرض/ إبراهيم غرايبة
هذه رواية كتبتها باللغة الإيطالية الفتاة المصرية الإيطالية راندة غازي، وطبعت ثلاث مرات بالإيطالية قبل أن تترجم إلى العربية. ولقيت الرواية إقبالا كبيرا، وكتب عنها أكثر من مائة عرض وتعليق، كما لقيت مقاومة من اللوبي الصهيوني في العالم. بدأت فكرة الرواية عندما شاهدت راندة المؤلفة صورة الطفل محمد الدرة على شاشة التلفزيون وهو يقتل بدم بارد وعلى مسمع العالم ومرآه.


undefined-اسم الكتاب: حالم بفلسطين
–المؤلف: راندة غازي
– ترجمة: مريم رزق الله
-عدد الصفحات: 339
-الطبعة: الأولى 2003
الناشر: دار الشروق، القاهرة

والرواية ليست قصة درامية تقليدية تتصاعد فيها الأحداث والمشاهد وتتفاعل بتنسيق يصل إلى النهاية، ولكنها كذلك من وجهة ما، بل هي تغص بالمشاهد والعقد والحبكات وتتزاحم فيها اللوحات مثل مسرحية معقدة.
فهي لم تكتب ليطالعها القارئ على نحو متسلسل، فيخرج بفكرة أو موقف ويتابع أحداثا وأفكارا ويستمتع عقليا أو عاطفيا.

لقد قرأتها من أولها إلى آخرها ومن آخرها إلى أولها ثم كيفما اتفق من أية صفحة أجدها وأسير في اتجاهات مختلفة في صفحات الكتاب وكأنها منثورة كيفما اتفق وليست محزومة في كتاب، فلا أجد ما أعرضه للقارئ سوى ما تثيره من صور ومشاهد وأسئلة وهموم وأوجاع وشك.

تبدأ الرواية بمشهد مجموعة من الأطفال والرجال والنساء كنت أحسبهم عائلة ثم عرفت من السياق أنهم مجموعة من الأصدقاء والأشقاء: جهاد الفتى وأخته الكبرى رهام، ونضال وإبراهيم ومحمد وآنجي وأحمد وجمال ورامي ووليد يعيشون كعائلة واحدة متضامنة، أعمارهم متفاوتة وكذا اتجاهاتهم وأمزجتهم.

أحمد المولع دائما بالقراءة حتى في أثناء لعبة كرة القدم عندما يختارونه لحراسة المرمى لأنه لا يتقن اللعب، والمرمى في الاتجاه الشعبي للعبة كرة القدم مكان مهجور، ثم يستشهد في عملية مقاومة مع الجنود، قتله جندي وسط استحسان زملائه وتصفيقهم: برافو جون كونيسبرغ، وطالما افتخر بأنه ماهر في الرماية يصيب في المكان الذي يحدده في الفريسة.. الشريان السباتي، ثم يطلق رصاصة ثانية في المكان نفسه وثالثة ورابعة. كان جهاد أصغر المجموعة بعد وليد، وكان يخطط ليؤلف كتابا وروايات ويسافر، يجيبهم دائما عندما يسخرون منه: ولكنكم لم تقرؤوا هاملت. وأما وليد فلم يذهب إلى مدرسة وكان إبراهيم ونضال ورهام يفكرون دائما بقلق كيف يعلمونه القراءة والكتابة.

وجمال عامل بسيط صامت دائما، وفي يوم من الأيام وجد نفسه وسط مجموعة من الجنود ففجر نفسه وقتلهم جميعا. ورامي يعمل في مستشفى مشغول دائما بالإسعاف والإنقاذ لا يترك لنفسه لحظة للتفكير والتأمل والسؤال والحزن كأن العمل حيلة أبدية إن توقفت فستكون نهايته، وفي النهاية تبتر ساقه بسبب القصف في عملية مواجهة قامت بها المجموعة.

وإبراهيم ابن الواحدة والثلاثين يبدو كهلا عجوزا في المجموعة، كان والده مهندسا ناجحا تزوج بمهندسة أردنية جميلة تعرف عليها في شبابه ثم انتقلا للعمل في فلسطين وتوفيت فيما بعد، واستشهد أبو إبراهيم عندما كان طالبا يدرس القانون في الجامعة، ولم يعمل في المحاماة كما أراد هو وأبوه بل عمل فيما اتفق وما يمكن أن يدبر منه أي مبلغ من المال ينفقه في ضرورات الحياة وفي تدبير شؤون العائلة أو المجموعة.

كبر إبراهيم وحده دون توجيه من أحد، فقد أمضت أمه سنوات من عمرها تصارع المرض، وكان أبوه مثقلا بالأحزان والمقاومة والعمل، لكنه كان وأبوه متفاهمين، كان يحدس ويفكر فيما يريده أبوه ويتخيله، يوجهه ويرشده دائما، وقال له وهو يحتضر: أريدك رجلا، ومضى كل في سبيله وبينهما الوصية. كان ذلك في أوائل التسعينات بعدما هدأت الانتفاضة أو تحولت إلى وجهة أخرى، وكان حينها طالبا في الجامعة في العشرين من عمره، ومنذ ذلك اليوم وهو يكبر كل يوم سنة مما يرى ويعيش من المقاومة وقتل الأطفال والنساء وتعذيب الرجال والفتيان، وأصيب بجراح مختلفة مرات كثيرة، وجعله ذلك صامتا حزينا يميل إلى العزلة ويخفي ما يريده وما يخطط لفعله لكنه محبوب ومهاب في صمته وغضبه.

أحب إبراهيم آنجي وكانا يخططان للزواج، وشعر أنه خرج من محنة فقد والده، فقد وجد نضال صديقه العزيز وآنجي رفيقة روحه، ولكنها استشهدت برصاص الجنود الإسرائيليين، فيزداد عزلة ويكثر الخروج من البيت بل ويمضي حياته في خروج دائم ربما بلا سبب أو في أعمال سرية، والمجموعة في قلق دائم عليه.

تتطور مشاهد العلاقات والمقاومة والحب والخصومات والحياة اليومية القلقة المستفزة دائما، فإبراهيم يزعجه ويقلقه محبة المجموعة وحرصهم عليه وخوفهم على حياته، كان يريد أن يمضي بهدوء دون أن يحزن أحد، وهو أيضا يحب نضال والمجموعة محبة تكبله، حتى عندما رحل نضال لبعض الوقت كاد يفقد حياته حزنا واستعاد فقد أمه وأخته ثم أبيه، وبدت الأيام الأولى بعد رحيله طويلة لا تنتهي.. الإحساس بغيابه لا يتوقف، تمر في كل لحظة مواقف تذكر بنضال عندما يسخر أو يشجع أو يشتم.

كان محمد يحاول أن يعوض غياب نضال بابتسامة ودودة وبمرحه ومزاحه، ويحاول طرح مواضيع وقضايا للنقاش والحديث، وعمل كل ما يمكن للحفاظ على وحدة المجموعة، ولكنه بعد عملية مقاومة استشهد فيها معظم أفراد المجموعة ترك عمله وتفرغ للصلاة، ثم فقد عقله وصار مجنونا.

نمط الحياة المفروض على الناس بلا خيار لهم فيه يمضي بتداعياته وآثاره التي لا تتوقف ولا يمكن حسابها، فالمقاومة والاستشهاد تتحول إلى فعل يومي يخلو من الرومانسية وهالة القداسة والبطولة، ليس لأنها لم تعد كذلك ولكنها بتكرارها وتحولها إلى جزء من الحياة اليومية والمعايشة تتحول إلى واجبات روتينية، مثل طعام الإفطار ودفع الفواتير والذهاب إلى المسجد للصلاة، وابتداع حيل جديدة لمقاومة الحزن والفراق والآلام الكبيرة بفقدان المشاعر أو تكييفها، والتكيف المستمر مع الحياة الجديدة التي تتغير كل يوم بإيقاعاتها وأحزانها وأحداثها الكثيرة باللامبالاة واللاشعور والنسيان المتواصل والتعويض، تعويض الأهل والأصدقاء والأبناء والأشياء أيضا بالعمل والمساعدة والتضامن والهروب.

يدركون أن الهدف هو تحطيم الإرادة والكبرياء فيجدون المقاومة والانتصار في التمسك بهما، الإصرار على التفاؤل والشجاعة والضحك وإخفاء الضعف وإظهار القوة دائما، وصنع السعادة أو افتعالها، فالضحك هو القوة، والسعادة هي طوق النجاة. هي دروس يومية في الحياة وتفصيلات فلسفية مصقولة يستوعبها جهاد ابن التاسعة عشرة، فالبيئة تعلم الإنسان والأحداث والتحديات تكشف فيه من القوة أكثر مما يظن وتحشد فعالية روحية واجتماعية لم يعلمها في نفسه، وتحفز طاقات ورؤى عميقة لا حدود لها.

رهام أخت جهاد الكبرى ذات الواحد والعشرين ربيعا وأخت المجموعة كلها تبدو كبيرة كأنها أم في تلك المجموعة وتتحمل مسؤولية إعالتهم وإرشادهم وتوجيههم وتقديم الحنان والدعم لهذه العائلة المجموعة.. تبتسم دائما، وربما تكون ابتسامتها غير بهيجة مثل ابتسامة جهاد لكنها أكثر نضجا وإدراكا.

الموت القادم في كل لحظة يجعل غياب واحد من العائلة مصدرا للقلق ودافعا للبحث عنه بهوس، فيزيد القلق تعلق الناس ببعضهم، ويكون تعلق رهام بجهاد مثلا ليس حنانا وحرصا فقط، بل حاجة للبقاء والمحافظة على العائلة والحياة، فهو الوحيد الذي تبقى لها في الحياة بعدما فقدت كل من حولها.

لقد استشهد والداها وأخواها التوأمان الرضيعان في عملية إبادة كانت مثل تسلية ممتعة للجنود صورت بالفيديو للتباهي والبث ورفع معنويات الناس وجمع التبرعات، كانت العملية مصدر سعادة وتسلية وإلهام، وتلك هي المسألة.

ستكون سذاجة كبرى إذا اعتقدنا أن تلك العمليات الوحشية في الإبادة والتعذيب والكراهية سيغير نشرها وإعلانها شيئا من الموقف الإعلامي أو الأخلاقي للصهاينة والغرب، وأنا أقول "الصهاينة" للإصرار على أن القضية برمتها صناعة غربية فرضت دولة إسرائيل على العرب واليهود أيضا ولملاحظة الشذوذ والغرابة في هذه الحضارة.

والمسألة هنا هي ذلك التجلي لتلك الحضارة في أبهى حالاتها وأعظمها برأي أصحابها، القتل والتعذيب والتدمير بلا رحمة، بل بمتعة عظيمة، وتلك هي الملحمة الكبرى التي تصنع فلسفة وسيرا شعبية وأبطالا، بل هي مادة لتسويق المنتجات، فالمشروبات والملابس والعطور تسوق في الإعلانات التلفزيونية مصحوبة بمشاهد المجنزرات والتدمير. ذلك "التيشورت" مثلا هو الذي كان يستخدمه الجندي وهو يقتل ويركل النساء والأطفال، والمعلن هو الأقدر على إدراك حاجات الناس واتجاهاتهم في تلك الحضارة.

ولماذا ننسى قصص مصارعة الأسود ومبارزة العبيد بقصد التسلية والإمتاع واستقدام مائة مليون أفريقي واستعبادهم واستغلالهم أبشع استغلال، وإبادة شعب بأكمله لم يكن يقل عددا عن الأوروبيين، بل وإبادة تاريخه وثقافته وتراثه الذي لم يكن يقل عمقا وثراء عن الحضارات والأمم الأخرى.

كان نضال يعبر عن رغبته في النضج والمقاومة بالتدخين علنا، فلا قيمة للتدخين سرا، وتعرض للصفع وهو يعلم أنه سيمر بهذا الموقف، ولكنه امتحان أو طقس لابد منه ليدخل نادي الكبار ويعترف به كبيرا وكأن ذلك حفلة ترسيم الفارس، ثم تحولت السيجارة إلى حيلة للهروب والتأمل، ثم مرض يسعى للتخلص منه، فيقع في إدمان الشاي والقهوة واللبان، إنها لعبة مسلية مؤذية لكنها لا مفر منها، وهي على أي حال أقل من الأخطار المحدقة.

ذات مساء بعد واحدة من تلك المجازر عندما تعرضت مدرسة للقصف والانتهاك جلس نضال وحده يفكر ويدخن ويستمتع بالتأمل والصمت، ثم لحقت به رهام، كانا يحبان بعضهما، هي تعلم أنه يحبها، وهو يعلم أنها تحبه، ويعلم أنها تعلم، وتعلم أنه يعلم، لكنهما لم يتبادلا في هذا الشأن كلمة واحدة، كانا يتحدثان دائما عن الشهداء والمصابين والجيران والأطفال والخبز والحمص والفلافل وفواتير الكهرباء التي تنقطع باستمرار والماء الذي لا يصل إلا نادرا. وفي تلك الليلة التفتا إلى وحدتهما ووحشتهما وضعفهما وتعاهدا على الزواج.

تزوج نضال ورهام، ثم حملت، وفي أثناء حملها استشهدت في عملية مواجهة كبيرة شاركت فيها العائلة كلها واستشهد وجرح معظم أفرادها.

كيف ماتوا ولماذا بقي إبراهيم أكبرهم ونضال العقل المدبر والمنظم ليست تلك فقط إرادة المؤلفة، فإبراهيم المقادمة بقي حتى البارحة وصار عمره 53 عاما، ولم يكن استشهاده غريبا بل لماذا تأخر استشهاده حتى البارحة، تلك الأسرار التي لا نعرفها أبدا في العلم والمقاومة، فنحن نقرأ ونقاتل وكفى، والمعرفة بالنسبة للجهل ليست سوى تلك البقعة من الأرض التي أزيلت أشجارها بالنسبة للغابة العظمى التي هي ما نجهله وكأن الأشجار التي قطعناها كانت فقط لنعرف حجم الغابة وامتدادها.

لقد تجنبت كثيرا الكتابة في هذا المجال، وأعني القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي ومقاومة الاحتلال متحملا أو متقبلا ما يجره ذلك من غضب وعتب وشكوك وتفسيرات متعددة ومتعللا بغزارة ما يكتب ويبث وينشر، ولكن ذلك كان في الحقيقة هربا من السؤال والجنون، ومحاولة للابتعاد عن حالة ما أو الوصول إلى حالة ذهنية وفلسفية تسمح بالكتابة والفهم والتفسير والانزواء والحياة.

ولكن حين يرى الإنسان نفسه فيما يكتب وينشر ويحسب أن هذا الكتاب إنما كتب عنه بالتحديد وأنه ينثر أعماقه وأسراه وأحشاءه في الشارع والأثير والإنترنت، ويحوله من كرة مغلقة محيرة متميزة إلى لوحة معروضة بتفاصيلها الدقيقة، أو كومة من الأشياء الثمينة والخردوات يعبث بها المارة والمراقبون والناس ويتسلون بها ويشفقون عليها، ويبدو كما لو أن خريطته الجينية وقعت بيد من لا يحب فصاروا يعيدون ترتيبها وبرمجتها على نحو عبثي غير معقول، عندها يتحرك المرء غريزيا دون تفكير أو شعور للدفاع عن نفسه وذاته هو ليحاول تكوين نفسه من جديد، وهذا ما حدث لي بالضبط عندما قرأت الرواية أو الكتاب أو النص أو ليكن اسمه ما شاء القارئ أو الناشر، وربما هو ما حدث للمؤلفة أيضا عندما رأت الطفل محمد الدرة يقتل بصلافة ومتعة لأجل المتعة فقط وفي عرض إعلامي وحفل علني بهيج.

ولزيادة المتعة والبهجة في العرض يقول الجندي القاتل: قتلت الطفل وتركت أباه ليتعذب، بهجة تذكر بمشهد بغداد وهي تقصف كما رآها ووصفها الطيار، قال: كان المشهد مثل زينة أعياد الميلاد.

لم يكن ذلك الجندي عبقريا تعلم الفلسفة في الأكاديميات والكتب، ولكنه يعبر عن فلسفة يتعلمها ويتلقاها غريزيا وفي كل يوم، فوالد محمد الدرة اليوم هو أقرب إلى الجنون بل هو مجنون بالفعل ودخل في حالة صدمة أبدية لم يفق منها أو يعجز عن الإفاقة منها أو لا يريد أن يفيق.

والاغتصاب الجماعي الذي يمارسه المنتصرون الغربيون فقط ولم تعرفه على نحو جماعي مبرمج ومؤسسي حضارة أخرى هو ببساطة ليس للترفيه الغريزي فقط ولكنه ترفيه فلسفي لتحطيم رموز المهزوم وكيانه الداخلي واحترامه لنفسه، فلا يكفي أن يهزم الخصم ويستسلم بل تلك هي البداية فقط.

وتحطيم عظام الأطفال دون قتلهم ليتحولوا إلى أصحاب عاهات دائمة ماثلة أمام ذويهم في كل لحظة، ويكونوا عبئا نفسيا وماليا عليهم وربما كراهيتهم واحتقارهم والاستخفاف بهم.

وبالمناسبة فإن عقوبة الجلد وقطع اليد قد تكون علاجا نفسيا أو عقوبة معنوية لتحطيم إرادة الشر أو تطهير النفس منها، وهي فلسفة يدركها الغرب تماما ولكن لتحطيم الخير وتنمية الشعور بالمذلة والتبعية والدونية والقهر، والوقت ذاته لا يكفون عن اتهام الإسلام بانتهاك حقوق الإنسان بتلك العقوبات غير الإنسانية.

المصدر : غير معروف