العولمة والفقر

عرض/ كامبردج بوك ريفيوز
يحاول هذا الكتاب أن يكون نقاشاً مفتوحا للعولمة وعلاقتها بالفقر العالمي, هل تزيده أم تنقصه؟ وكيف يمكن مصالحتهما معاً؟ الكاتب جاي آر. ماندل يعمل أستاذا للاقتصاد في جامعة كولغيت منذ عام 1990, وكان قبل ذلك قد تولى التدريس في جامعة تمبل إضافة إلى عدد من الجامعات في الصين وترينيداد وتوباغو وغويانا وباربادوس. وفاز الكاتب بعدد من الجوائز ونشر عدداً من الكتب والمقالات حول التنمية في منطقة الكاريبي, والنمو الاقتصادي, والتاريخ الاقتصادي الأفروأميركي.


undefined-اسم الكتاب: العولمة والفقراء
–المؤلف: جاي آر. ماندل
-عدد الصفحات: 157
-الطبعة: الأولى 2003
الناشر: كامبردج يونيفيرسيتي برس

تلازم أم تناقض؟
لهذا فهو ليس غريباً عن الموضوعين: العولمة والفقر، ولهذا أيضا فإن النبرة التصالحية التي تسم كتابه يمكن تفسيرها برغبته القوية في إثبات أن هذين الاثنين ليسا بالضرورة متضادين على طول الخط. لكن الجهد -الكبير في الواقع- الذي يبذله في الكتاب لإثبات مثل هذا التصالح يظل محط تساؤل, ولا يخرج القارئ مقتنعاً تماماً بتلك الإمكانية: يخرج بخلاصة تقول يحتمل أن يحدث ذلك, لكن الشروط المرافقة لذلك الاحتمال عديدة وليست سهلة التحقق.

يطرح ماندل السؤال من الصفحة الأولى: هل العولمة هذا "الشيء" الذي بات يتردد على كل لسان, والذي بات يميز العصور الحديثة والتي يناصرها ويتحمس لها كثيرون ويكرهها في المقابل كثيرون, خير أم شر؟ هل تخفي أجندة خاصة مدمرة خلف خطابها المزوق والدعائي? وهل الغرض من الترويج الذي يقوم به أنصارها يخفي حقيقة إغنائها الأغنياء أكثر وأكثر وإفقارها الفقراء أشد وأشد؟ أم أن حقيقة الأمر هي أن معرفتنا بآثارها على حياتنا ناقصة, وحتى إدراكنا لتعريفها بدقة مازال قاصراً, وبالتالي صارت معرفة ما ينتمي إليها حقاً من ضمن ما ينسب إليها من شرور وخيرات هي التي تثير كل هذا الجدل الكبير الذي يحيط بها.


هل تخفي العولمة أجندة خاصة مدمرة خلف خطابها المزوق والدعائي? وهل الغرض من الترويج الذي يقوم به أنصارها يخفي حقيقة إغنائها الأغنياء وإفقارها الفقراء؟

ابتداء يعلن المؤلف أن منطلق الكتاب يقوم على أن "التنمية الاقتصادية والعولمة ضروريتان لخلق حياة أفضل"، ويقصد بالتنمية الاقتصادية محاربة الفقر وتخفيف وطأته, أي أنه يرسم التلازم المفترض -الذي هو أساس أطروحة الكتاب- بين القضاء على الفقر والعولمة من البداية. ثم يمضي ليستعرض بإيجاز الفوائد البينة للعولمة والحركات التي تتناولها والجدل المنبثق عن ذلك, فنرى طروحات العولمة وطروحات معارضيها. وفي هذا السياق فهو يقدم عرضاً متوازناً, إذ يدرج الرأي والرأي الآخر ويسرد محاججة كل رأي وكأنه صاحبه.

لكن انحيازه الرئيسي والأهم لا يقع هنا وإنما في دفاعه عن أن العولمة تخفف من الفقر، بخلاف ما يقوله معارضوها من أنها تفاقم من الفجوة بين الأغنياء والفقراء. وهو يدعم رأيه بمحاججات منطقية في الميادين التي يتصدى لها, لكن تبقى محاججاته محدودة على نحو ما. فعلى سبيل المثال نجده يقول إن ناشطي "الحركة المحلية" (Localisation) أي الحركة التي تدعو للعودة إلى الاقتصاد المحلي والتنمية المحلية وتقطع مع الاقتصاد العالمي والعولمة, يعتقدون "أن التنمية كانت مشروعاً أسيء فهمه منذ البداية" (ولفغانغ ساخس 1996), وأن "الوقت قد حان لكتابة مرثيتها".

فالتنمية الاقتصادية تفترض علاقات عالمية, وتهيئ المناخ لنشوء أنماط متفاقمة من الاستهلاك. لكن أنصار المحلية بمثل هذا النقد يتجاهلون الاستهلاكية الجمعوية التي استحوذت على القرن الحادي والعشرين منذ بدايته, والتي يبدو من الصعب تغيير مسارها. فثمة غموض في مطالبهم, فهل تراهم يريدون أن يقوم العالم بتقنين نمط حياة مئات ملايين البشر, والتقليل من أسباب راحتهم, والحد من السفر والبضائع الاستهلاكية؟ وهل أن ذلك ممكن حتى لو رغبنا في تحقيقه؟ ولكن من جانب آخر ليس هناك تبرير للاستهلاك اللانهائي وتسبيب الضرر للبيئة، فما هي وجهة النظر إذن وما هو الحل?

مثل هذه الأسئلة وغيرها من العيار الثقيل, لا يخرج القارئ بجواب حاسم لها, وهذا يؤخذ على الكتاب ويسجل له في نفس الوقت. فعلى الأقل يترك الباب مفتوحاً للنقاش, ولا يدعي المعرفة التامة التي تدفع لإغلاقه.

أسئلة أخرى
بعد ذلك يأخذنا المؤلف في جولة للنظر إلى العالم من خلال عيون الشركات متعددة الجنسيات والدول القوية والناشطين المناهضين للعولمة والطلاب المنتمين للحركات الاحتجاجية وشعوب العالم الثالث الذين تعني التجارة الدولية بالنسبة لهم العمل ووسائل تأمين الطعام لأفراد أسرهم الكبيرة.

وفي كل حالة من هذه الحالات تبدو حجة الطرف المعني قوية ومقنعة كما يوردها المؤلف، فالعلاقة بين العولمة وتخفيف الفقر في العالم النامي تبدو حقيقية، ولكن في المقابل فإن ما لا يقل حقيقة عنها هو صور المجاعات والعوز والفاقة. فإذا كانت العولمة جيدة حقاً فلماذا لم تحقق شيئاً في مجال تخفيف معاناة الفقراء? لابد إذن من وجود شيء مفقود.

لقد بدأت العولمة بالظهور منذ القرن التاسع عشر، ويوضح المؤلف دور الاتفاقيات التجارية ومنظمة التجارة العالمية في تسريع خطى العولمة وتوسيع أثرها ليشمل تقريباً كل الدول ذات السيادة في العالم. كذلك لعبت التكنولوجيا دورها إلى جانب ارتفاع مستويات التعليم في الدول النامية. وساهم تشكيل الترتيبات التجارية وعقد الاتفاقيات المعنية مثل اتفاقية "غات" وغيرها في نشر العولمة على نحو ملحوظ. كما ساهم في ذلك أيضا قيام المؤسسات التي تتولى تنظيم التجارة العالمية.


تفضل الدول الغنية أن تحول استثماراتها إلى مجال البضائع التقنية حيث توجد العمالة الماهرة, في حين تترك البضائع الاستهلاكية العادية لكي تنتج في الدول النامية

تفضل الدول الغنية أن تحول استثماراتها إلى مجال البضائع التقنية, إلى حيث توجد العمالة الماهرة لغرض إنتاج البضائع التقنية وذات التخصصات العالية بنفسها, في حين تترك البضائع الاستهلاكية العادية لكي تنتج في الدول النامية، إذ إن بوسع هذه الدول استيراد تلك البضائع بكلفة أدنى من كلفة القيام بتصنيعها داخل بلدانها. ومن شأن هذا أن يعطي الدول النامية إمكانية خلق فرص العمل لأبنائها وكسب المال من خلال التجارة والتبادل الخارجي.

أما السؤال الجوهري فهو: هل ستقود هذه العملية إلى اتساع الهوة أكثر فأكثر بين الدول الغنية والفقيرة? وهل ستجعل الدول الأغنى غير قادرة على إنتاج الضروريات اليومية كمحصلة لتقدم خبراتها العالية, وأن تتعالى على الدول التي تنتج البضائع "العادية" بعمالة غير عالية الكفاءة؟ وهل سيعمل انتقال البضائع من بلد إلى آخر على استنفاد الموارد باطراد من أجزاء مختلفة من العالم? يمكن للعولمة أن تخلق ظروفاً أفضل لتبادل البضائع والنقود, ولكن ألا تعمل أيضا على زيادة إبعاد الدول والشعوب عن بعضها الآخر?

النمو وحده لا يكفي
ما يمكن قوله هنا هو أن النمو وحده لا يؤمن العدالة، إذ إن من الواضح أننا في حاجة مطردة للعودة إلى الثقافة والقيم والكثير من مبادئ العدالة والمساواة ذات العلاقة بالرفاهية الاجتماعية من أجل الحصول على أفضل فوائد العولمة. فالعولمة تسبب أيضا نزوح العمال وحرمانهم من العمل الذي لا يعد مرغوباً فيه عندما تتغير الإستراتيجيات الإنتاجية.

وفي هذه الحالة يكون العمال في حاجة إلى الدعم من أجل تخفيف الأذى الناجم عن فقدانهم للعمل. يضاف إلى ذلك أن الرخاء الذي تجلبه العولمة يمكن أن يولد تشتتاً في تفكير الناس، فانعدام الدافع يمكن أن يشكل قضية كبرى عندما لا يعود الناس محتاجين إلى الكفاح من أجل العيش. ويمكن للعولمة أن تأتي بمنافعها في موجة كاسحة كبرى, ولكن يمكن لهذه الموجة أيضا أن تنحسر بنفس السرعة مسببة انهيار الأسواق المالية وزعزعة الظروف الاقتصادية.

ومن هنا تتوجب إشاعة الوعي الاجتماعي ومفاهيم السلامة الاقتصادية في أذهان الناس إلى جانب إشاعة الرخاء الاقتصادي، فهذه القيم لا تأتي كنتاج عرضي للعولمة إنما ينبغي العمل على إيصالها للناس عن طريق مجهود جماعي وواعٍ من جانب أي حكومة معنية بتطوير نوعية حياة شعبها.

بوسع الدول المتقدمة أن تساهم في تعجيل النمو الاقتصادي في الدول النامية عن طريق المساعدة في تركيز تطوير التقنيات الجديدة التي تلائم احتياجات البلدان الفقيرة. وكما قال ولفغانغ ساخس فإن الجهود المبذولة حالياً لتوليد تقنيات جديدة "موجهة بشكل يكاد يكون كاملاً لحل مشاكل الدول الغنية". وينبغي للبحث والتطوير أن يكونا محددين بعوامل البيئة خصوصاً فيما يتعلق بالزراعة, حيث يلعب الطقس والاختلاف في التربة أدوارا حاسمة في إنجاح تطبيق أي وسيلة جديدة من وسائل الإنتاج الزراعي.


إن أي تضامن حقيقي مع الفقراء يتطلب الاعتراف بأن العدالة والنمو -أي العولمة- أمران ممكنان وضروريان معاً

المجال الآخر الذي يحتاج إلى تطوير أساسي من أجل تسهيل عملية العولمة وتسييرها على نحو عادل هو وضع القوانين والقواعد اللازمة لمنع استغلال الدول الفقيرة أو قوتها العاملة من قبل الدول الأكثر غنى وتقدماً. وهناك أيضا حاجة مماثلة لتنظيم عمل المنتجين في الدول النامية على نحو يجعلهم خاضعين للمساءلة عن طبيعة إنتاجهم والظروف التي يتم إنتاجه بموجبها. كما ينبغي وضع نظام للحوافز لا يقيس كفاءة الأداء بالكمية وحدها إنما بالنوعية أيضا.

ينهي جاي ماندل كتابه بإعادة التأكيد على أطروحته الوسطية: التصالحية بين العولمة والفقر، فيلفت النظر للحاجة إلى النمو الاقتصادي وإلى القضايا التي يثيرها الناشطون المناهضون للعولمة, مشيرا إلى أن أي تضامن حقيقي مع الفقراء يتطلب الاعتراف بأن العدالة والنمو -أي العولمة- أمران ممكنان وضروريان معاً، وأن ما من شيء يمكن أن يكون أكثر أهمية في تحقيق العولمة العادلة من اقتناع أولئك الناشطين بصحة هذا الرأي.

لكن ينسى أن يقول لنا ما هو المطلوب في المقابل من حكام العولمة والمسيطرين عليها، أليس عليهم دور أكثر مركزية من دور معارضيها أيضاً يتمثل في تخفيف وحشيتها؟

المصدر : غير معروف