"الاشتراكي" الفرنسي.. تراجع فكري وانتكاسات شعبية

الحزب الاشتراكي الفرنسي - الموسوعة

حزب سياسي فرنسي؛ تمحور برنامجه السياسي حول جمع اليسار فضم تشكيلات منه مختلفة مع ميل ليسار الوسط، وإبداع منهج سياسي يختلف عن الاشتراكية الستالينية المستبدة. وصل إلى السلطة أول مرة في انتخابات عام 1981 محققا بذلك أول تناوب مع اليمين في الجمهورية الخامسة، ثم عاد للسلطة في رئاسيات 2012.

النشأة والتأسيس
ظهر الحزب الاشتراكي الفرنسي أول مرة عام 1960 تحت اسم "الحزب الاشتراكي الموحد"، وكان تعبيرا عن التيار المناوئ للاشتراكية الستالينية المستبدة يومها بفئات واسعة من قوى اليسار في العالم وأوروبا.

قاد الحزبَ السياسيُّ المخضرمُ ميشيل روكار ونال دعما من رئيس الوزراء الفرنسي بيير منديس فرانس، وشكل رفض حرب الجزائر جزءا هاما من الاتفاق السياسي بين فرانس وزعيم الحزب الناشئ روكار.

فكَّر الحزب في تقديم مرشح لرئاسيات 1965 فكان غاستون دفير الأوفر حظا للتقدم في سياق محلي ميّزته متاعب كبيرة لحقت برئيس البلاد يومها الجنرال شارل ديغول، أغلبها ناتج عن حرب الجزائر ونهاية الحقبة الاستعمارية. وحاز ترشيح ديفير دعم زعيم القسم الفرنسي للعمالية العالمية غيل موليه.

لكن فئاتٍ أخرى من اليسار كانت هي الأخرى متوثبة لمقارعة الديغوليين، وتزعم هذا التيار السياسي الشاب فرانسوا ميتران الذي شكَّل فصيلا سياسيا سماه "المعاهدة من أجل مؤسسات الجمهورية"، ورفع شعار "اشتراكيون لا شيوعيون" فلقي تجاوبا كبيرا نظرا للتوجس المستحكم يومها من طموحات الهيمنة السوفياتية.

تمكن فرانسوا ميتران من الحصول على 32% من الأصوات في الشوط الأول من رئاسيات 1965 محدثا مفاجأة كبرى وضاربا في الصميم كبرياء الجنرال ديغول، كما أنه قبل ذلك وبعده أكد زعامته لليسار بحصوله على 45% في الشوط الثاني، وفرض نفسه بصفته الزعيم الأوحد القادر على قيادة توحيد اليسار المشتت منذ عقود.

التوجه الأيديولوجي
نظرا لكون الأصول الفكرية للحزب الاشتراكي تعود إلى مطالع القرن العشرين باعتباره جزءا من القسم الفرنسي للمنظمة العمالية العالمية، فقد مرَّ بمراحل عدة انتقلت به من الراديكالية اليسارية الثورية إلى الاشتراكية المعتدلة المتخلصة من مركزية فكرة الثورة وصراع الطبقات وصدامها.

بل إن الحزب تخلى نهائيا -في أحدث إعلان مبادئ له (صدر عام 2008)- عن فكرة صدام الطبقات، وتضمن الإعلان للمرة الأولى إشارة لتكوين الثروة واقتصاد السوق المتكئ على قطاع خاص نشطْ، وهو ما شكل ثورة في مسار الحزب ونزعة إلى التخلص من طوباوية الافكار الاشتراكية التي نظَّر لها مفكرو اليسار الفرنسيون في القرن التاسع عشر.

المسار التاريخي
رغم أنَّ الحزب الاشتراكي رسخ وجود بقوة في الساحة السياسية بنيل مرشحه ميتران المركز الثاني في الانتخابات الرئاسية عام 1965، فإن معسكر غاستون ديفير ظل معاندا لتيار ميتران نظرا لشرعيته التاريخية المستمدة من تمثيله للقسم الفرنسي للعمالية العالمية، وتجسد هذا الرفض بإعلان المعسكر خطواتٍ تجديدية سرعت وتيرتَها رئاسياتُ 1969 السابقة لأوانها بسبب استقالة الجنرال ديغول.

تم لمعسكر ديفير ما أراد بفضل الدعم السخي الذي كسبه من العمالية العالمية ورفض زعيمها غي موليه دعم ترشيح ميتران للرئاسيات، فاقتنع هذا الأخير بأن الوقت ليس مناسبا لتوحيد اليسار من أجل مقارعة اليمين الديغولي ومرشحه جورج بومبيدو.

لم يُرد ميتران المنافسة لذاتها بل لتحقيق التناوب السياسي الأول في تاريخ الجمهورية الخامسة، وهو هدف بدا بعيد المنال بعد اكتساح اليمين الديغولي للتشريعيات المبكرة عام 1968.

مُني غاستون ديفير بخسارة مدوية في رئاسيات 1969، فاقتنع زعماء العمالية العالمية -وعلى رأسهم غي موليه ومعه ديفير وبقية قيادات اليسار مثل روكار- بحتمية توحيد اليسار وصياغة مرجعية سياسية توافقية تبقى وفية ليساريتها، لكنها متصالحة مع التطورات الحاصلة في فرنسا والعالم.

بيد أن التغيير المنشود كان مستحيلا دون إشراك جناح ميتران وهو ما تم بالفعل، إذ اتفق الفرقاء على إقامة المؤتمر الثامن والخمسين للعمالية العالمية وتحويله إلى خطوة تجديدية لتوحيد اليسار.

انعقد المؤتمر في 1971 وأعلِن ميلاد الحزب الاشتراكي مع قرار تاريخي نص على أن شغل المناصب الحزبية يكون بالانتخاب، وبعد عام من ذلك التاريخ أُعلن البرنامج الجديد للحزب ولليسار بعنوان: "لنغير حياتنا".

إثر وفاة جورج بومبيدو 1974، تقدم ميتران للرئاسيات المبكرة التي نظمت ذلك العام، فخسرها أمام اليميني فاليري جيسكار ديستان بفارق أقل من نقطة واحدة بالمائة في الشوط الثاني رغم تقدمه في الشوط الأول.

شكلت تلك الانتخابات منعطفا مشهودا في تاريخ الحزب الذي بات أهم قوة سياسية في البلاد وهو ما عكسته هيمنة الحزب في الانتخابات الجهوية والبلدية في السنوات الخمس اللاحقة، ليُتوج هذا المنحى التصاعدي في شعبية اليسار بفوزه برئاسيات 1981 ودخول ميتران قصر الإليزيه، محققا بذلك حلما استمر نحو عقدين من الزمان.

أسند ميتران قيادة الحزب إلى رجل ثقته ليونيل جوسبان الذي رشحه الحزب لاحقا لرئاسيات 1995. ورغم تحقيقه مفاجأة مدوية بنيله المرتبة الأولى في الشوط الأول بحصوله على أكثر من 43%، فإنه خسر في الشوط الثاني أمام المرشح الديغولي جاك شيراك.

وفي رئاسيات 2002 خسر الحزب الاشتراكي على نحو مهين حين خرج مرشحه جوسبان من الشوط الأول لينحصر السباق في الشوط الثاني بين شيراك وزعيم الجبهة الوطنية جان ماري لوبان.

وفي انتخابات 2007 الرئاسية نافست مرشحته الحزب سيغولين رويال بشدة، لكنها خسرت بشكل مشرف في الشوط الثاني أمام المرشح اليميني نيكولا ساركوزي.

وقد عاد الحزب إلى الإليزيه في رئاسيات 2012 ممثلا في أمينه العام الأسبق فرانسوا هولاند الذي يوصف بأنه الزعيم الأقل شعبية في تاريخ الجمهورية الخامسة، إلا أن الاشتراكيين أصيبوا بفشل كبير في كل من الانتخابات البلدية عام 2014 والإقليمية أواخر عام 2015.

المصدر : الجزيرة