محمد إقبال

صورة للشاعر محمد إقبال من باكستان - الموسوعة
شاعر إسلامي عالمي وصفه الأستاذ عباس محمود العقّاد بأنه طراز العظمة الذي يتطلبه الشرق في الوقت الحاضر، وفي كل حين، لأن عظمته ليست بالدنيوية المادية، وليست بالأخروية المُعرضة عن الدنيا، "وهو زعيم العمل بين العُدْوتين من الدنيا والآخرة، قوّام بين العالَميْن كأحسن ما يكون القوّام".

المولد والنشأة
ولد محمد إقبال يوم 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1877 في مدينة "سيالكوت" بولاية البنجاب (التي أصبحت جزءا من باكستان بعد استقلالها عن الهند)، في بيت من بيوتات البراهمة الكشميريين، أسلم جده الأعلى قبل نحو قرن ونصف من ميلاده، وتربى في بيت صلاح وزهد، وكان والده رجل ورع وتصوف، فأخذه بتربية صارمة كان لها أثر بالغ في حياته كلها.

فقد تعلق بالقرآن منذ الصغر، وكان يقرأه اقتداء بوصية والده "كأنما أنزل عليه"، حتى تشرّب معانيه وسرت ألفاظه في شعره، وطغى عليه حس إنساني امتزجت فيه الأكوان والأوطان، وذابت فيه الحدود والثغور، حتى قال عن نفسه: "إن جسمي زهرة من جنة كشمير، وقلبي من حرم الحجاز، وأنشودتي من شيراز".

الدراسة والتكوين
استهل تعليمه النظامي في مدرسة إنجليزية بمدينته ثم انتقل إلى كلية أخرى في البلدة نفسها، ثم إلى كلية حكومية في لاهور -عاصمة البنجاب- وكان متفوقا في اللغتين العربية والإنجليزية، وحصل على شهادتي البكالوريوس والماجستير في الفلسفة.

وفي سنة 1905 سافر إلى لندن ودرس في جامعة كامبردج وحصل على شهادة عالية في الفلسفة وعلم الاقتصاد، ومكث هناك سنتين يحاضر عن الإسلام.

ثم سافر إلى ألمانيا ودرس الفلسفة في جامعة ميونيخ وحصل على شهادة الدكتوراه عن دراسة بعنوان "تطور الميتافيزقيا في بلاد فارس"، وعاد إلى بريطانيا وحصل على شهادة في المحاماة من جامعة "كامبردج"، وانتسب إلى مدرسة علم الاقتصاد والسياسة في لندن وتخرج في المادتين.

الوظائف والمسؤوليات
بعد تخرجه في كلية لاهور عين أستاذا للتاريخ والفلسفة والسياسة في الكلية الشرقية بلاهور، ثم عين أستاذا للإنجليزية والفلسفة في الكلية الحكومية التي تخرج فيها.

وخلال دراسته في بريطانيا عمل أستاذا للغة العربية في جامعة لندن، ولما عاد إلى الهند سنة 1908 عمل محاميا.

شاعر الإسلام
كان إقبال أول شاعر يلقب بشاعر الإسلام، كما كان أول مناد بقيام وطن خاص بالمسلمين في شبه القارة الهندية، وهو ما تحقق بقيام باكستان بعد وفاته بسنوات.

ويبدو أن آثار النشأة الأولى -في رحاب التصوف والاغتباط بنعمة الإسلام- قد أورثته حبا للرسول صلى الله عليه وسلم، جارفا غامرا، ملك عليه أقطار نفسه واستبد بهواه، وعصمه من غوائل الحياة الغربية وشرور الحضارة المادية، يقول عن نفسه:

"لم يستطع بريق العلوم الغربية أن يبهر لبي ويُعشِيَ بصري، لأني اكتحلت بإثْمِد المدينة". "إن تربة المدينة أحب إلي من العالم كله".

 وقد ظل مشبوب الحنين مستطار اللب هائما بأمجاد المسلمين، يرسل شعره على هذا النحو (ترجمة الشيخ أبي الحسن الندوي):

"إنني هائم في شعري وراء الشعلة التي ملأت العالم أمس نورا وحرارة، وقد قضّيت حياتي في البحث عن تلك الأمجاد التي مضت، وأولئك الأبطال الذين رحلوا، وغابوا في غياهب الماضي.

 إن شعري يوقظ العقول، ويهزّ النفوس ويُربّي الآمال في الصدور. ولا عجب إذا كان شعري يملأ القلوب حماسة وإيمانا وكان وقعه في النفس كبيرا وعميقا، فقد سالت فيه دموعي ودمائي وفاضت فيه مُهجتي".

وكان شديد الاعتزاز بنفسه ودينه قوي الإيمان بذاته وعقيدته:

"إن الموت أفضل من رزق يقصّ من قوادمي ويمنعني حرية الطيران".

وكان كثيرا ما يجري على لسانه الأثر النبوي الشريف، وربما صاغه شعرا:

"اطلبوا الحوائج بعزة النفس فإن الأمور تجري بالمقادير".

الشاعر الثائر
"الشاعر الثائر" عنوان كتاب ألّفه الروائي المصري نجيب الكيلاني عن محمد إقبال، وخلص فيه إلى أن إقبال "لم يرد للشعر أن يكون فلسفة محضة"، فيُجلب من رياض الزهر وهمسات النسائم وغفوات النجوم إلى مجالس الجدل وصوامع السفسطة، بل يريد له "أن يمتزج بألوان الفكر، وصادق النظرات، وحقائق الوجود، وكُنه الكائنات، وأن يُناجي النسائم، ويصقل العقول، ويسطّر وثائق التحرير والكفاح ويحكم في قضايا الناس والمدنيات".

ومذهب إقبال الشعري والفكري قائم على الثورة والحركة والقلق، وعلى التجديد وتحطيم القيود وتحرير "الذات"، يقول:

 "كل حياة لا تجديد فيها ولا ثورة، أشبه بالموت. إن الصراع هو روح حياة الأمم إن أمة تحاسب عملها في كل زمان سيف بتار في يد القدر لا يقاومه ولا يقف في وجهه شيء".

في محراب الفلسفة
كان إقبال على حظ وافر من علوم الإسلام النقلية والعقلية، وعلى دراية واسعة بتعاريج الفلسفة، قديمها وحديثها، شرقيها وغربيها، وكان عميق الفهم لحركة التاريخ، شديد الوعي بحقائقه وأحداثه، يلخّص تطور المجتمعات وأعمار الدول على هذا النحو:

"تعال أنبئْك بمصير الأمم وعاقبتها، سنان ورماح ثم لهو وغناء".

وكان شديد التطيّر من "سكر القوة" وجنون العظمة، يقول: "انظر كيف مزّق جنكيز خان وإسكندر رداء الإنسانية، وهتكا ستر الحشمة ولباس الكرامة، وفضحا الإنسان مرارا وتكرارا".

وقد اعتلجت في فكر إقبال وشعره تيارات عنيفة من التصوف الغامر، والفلسفة العاتية، والمعرفة الواسعة، فهو "مريد" مولانا جلال الدين الرومي، وهو تلميذ المدرستين الألمانيتين: المثالية العقلية، والوضعية الحسية، وهو ناقد سياسي عميق النظر، نافذ البصيرة.

وهو فوق كل ذلك شاعر مسلم قوّام بالقسط -حسب وسعه ووسع زمانه- نزّاع إلى الحركية الإيجابية، وإلى البعث والإحياء، وإلى "إعادة بناء التفكير الإسلامي" وفق منهج يزدوج فيه العقل والنقل ويصطحب فيه الرأي والشرع.

لقد عجمته النوائب ونجّذته الخطوب وأحكمته التجارب، فما زاغ بصره ولا فكره. ولئن عرَته شطحات تصوف صادمة، أو بدرت منه نزوات وجدان جامحة، فقد كان يرجع إلى دين وثيق.

وقد جمعت فلسفته بين حرارة الإيمان وصفاء التأمل العقلي الراشد، فجاءت الحقائق الفلسفية في شعره متلفّعة بمروط العواطف، متحررة من قيود الأرض، متطلّعة إلى السماوات العلى، ها هو ذا في حديث الروح (ترجمة الشيخ الصاوي شعلان):

لقد فاضت دموع العشق مني   حديثا كان عُلْويَّ النداء

فحلّق في رُبى الأفلاك حتى   أهاج العالم الأعلى بكائي! 

وحينما يمعن النظر في مباهج الفلسفة الغربية ومفاتنها، فإنه ينعى عليها إيمان العقل وكفر القلب، ويعيب عليها عبادة الجسم وإهمال الروح والشغف بالعلم وهجران "العشق". يقول مخاطبا الغربيين: "إن حضارتكم سوف تقتل نفسها بخنجرها.. إن العُشّ لا يثبت على غصن ضعيف مضطرب"! 

 أما في دراسته لتاريخ الفكر الإسلامي فقد لاحظ أن "الفلسفة اليونانية كانت قوة ثقافية عظيمة في تاريخ الإسلام"، وسّعت آفاق النظر العقلي عند مفكري الإسلام، لكنها جنت عليهم جناية عظيمة حين أعشت أبصارهم عن فهم القرآن، وحجبت عن بصائرهم أن روح القرآن معارضة لتعاليم الفلسفة.

ونبّه إلى أن منهج حجة الإسلام أبي حامد الغزالي القائم على دعائم الشك الفلسفي ليس قويما، وأن ابن رشد -ألد خصوم الغزالي وأول المنافحين عن الفلسفة اليونانية- اصطنع مذهب خلود العقل الفعّال، "فساعد من -غير قصد- على نمو فلسفة للحياة تورث الضعف وتغشي على بصر الإنسان عند نظره إلى نفسه وإلى ربه وإلى دنياه".

وعاب على المعتزلة جموحهم العقلي ونزعتهم الذهنية التجريدية التي حجبت عنهم حيوية الدين وصرفتهم عن الإيمان الفطري.

 في مناكب الأرض
ذاع صيت إقبال وطارت شهرته، وانكبّ الناس في الشرق والغرب على شعره بإعجاب ودهشة، ففي لندن جاءته دعوات من فرنسا وإسبانيا وإيطاليا.

وسألته فرنسا أن يزور مستعمراتها في شما ل إفريقيا، فرفض، كما رفض الصلاة في جامع باريس وقال إنه ثمن بخس لتدمير دمشق.

وفي طريقه إلى الهند مر بالقدس، واشترك في المؤتمر الإسلامي المنعقد فيها وكتب قصيدة يترسم فيها خطى البوصيري في "البردة" ويندب واقع المسلمين ويبكي جراحهم.

 وفي سنة 1932 زار أفغانستان تلبية لدعوة من ملكها نادر خان، وكانت له أشجان وأحزان بثها في شعره، وأرسل بعضها دموعا على قبر السلطان محمود الغزنوي فاتح الهند.

وبعد، فقد كان إقبال موكلا بتتبع آثار العرب في العالم، يبكي أطلالهم في لوعة ومرارة، ويخلّد مآثرهم بإعجاب ودهشة، فهذه دموعه في صقلية:

"ابك أيها الرجل دما لا أدمعا، فهذا مدفن الحضارة الحجازية"

ثم يندفع منشدا:

"فوا أسفا والذكريات تهدُّني *  وأين الذي أبكي فيبكي أسى معي؟

على أنني ألزمت نفسي رشادها *  وعدت بقلب مستطار التطلع

أرى لمحات الفجر في غيهب الدجى *  وقد تسمح الآمال بعد التمنع"

وهذه أحزانه وآلامه في مسجد قرطبة (من صياغة الشاعر زهير ظاظا لديوان جناح جبريل، بتقديم وتأخير):

كنخيل الشام وأعمدها * شمخت في المسجد أعمده

تتألق زرقة قبته * وتُقيم الليل وتُقعده!

وتنهُّدها في وَحدتها * كالطُّور كَواهُ تنهُّده!

وكأن علائق زينته  * خفقات القلب ومعْقِده!

 ثم لا يغيب عنه وهو في الأندلس أن يناجي صقر قريش (عبد الرحمن الداخل) وأن يرثي نخلة الرصافة، ويتلو "دعاء طارق بن زياد"، ويرسل "صرخة المعتمد بن عباد".

 المؤلفات
كتب إقبال تسعة دواوين، تضمنت نحو 12 ألف بيت من الشعر، منها قرابة سبعة آلاف بيت بالفارسية، وخمسة آلاف بيت بالأوردية.

ومن أشهر دواوينه: "جناح جبريل" و"رسالة المشرق" و"ضرب الكليم" و"هدية الحجاز" و"الأسرار والرموز" و"صلصلة الجرس".

أما أهم كتبه النثرية فـ"تجديد الفكر الديني في الإسلام"، و"تطور الميتافيزيقيا في بلاد فارس".

وكان من آخر ما كتب وهو على فراش الموت (حسب ترجمة الندوي، بتصرف):

"ليت شعري، هل تعود النغمة التي أرسلتها في الفضاء؟ هل تعود النفحة الحجازية؟ لقد أظل الموت وحضرت الوفاة، فهل من حكيم يرثني"؟

الوفاة
توفي محمد إقبال فجر الـ21 أبريل/نيسان 1938، ودفن في لاهور.

المصدر : الجزيرة