شارل ديغول مهندس الجمهورية الفرنسية الخامسة

epa02201769 An undated handout picture showing General Charles de Gaulle at his London headquarters during the early 1940's. 18 June 2010 will mark the 70th anniversary of his famous broadcast from London with words that have gone down in history. As the French government was preparing to sign an armistice with the Nazi invaders, de Gaulle broadcast on the BBC to France. His famous words were: 'The flame of French Resistance must not and will not be extinguished' EPA/HO HANDOUT --- EDITORIAL USE ONLY
شارل ديغول نجا في فترة رئاسته من 5 محاولات اغتيال (الأوروبية)

شارل ديغول قائد عسكري وسياسي ورجل دولة فرنسي، قاد حرب بلاده ضد الاحتلال الألماني في أربعينيات القرن العشرين، ثم تولى رئاسة الحكومة ورئاسة الدولة، فأسس الجمهورية الفرنسية الخامسة. 

حظي ديغول بشعبية كبيرة في فرنسا، ويعتبر واحدا من أهم الشخصيات المؤثرة في تاريخ البلد، إذ رفض الهدنة وقاوم النازية، واتهم بالخيانة من قبل عسكريين كثيرين بسبب إنهائه استعمار بلاده العديد من البلدان، خاصة الأفريقية منها.

المولد والنشأة

ولد شارل أندريه جوزيف ماري ديغول يوم 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1890 في مدينة ليل شمالي فرنسا، علّمه والده الفلسفة والأدب، فأحب القراءة منذ صغره واتخذ من الكتابة هواية له، ولا سيما الشعر في بداية مراهقته، ولم يخف شغفه واهتمامه الكبيرين بالشؤون العسكرية وهو لا يزال صبيا يافعا.

نشأ شارل ديغول (الابن الثالث من أصل 5 إخوة) وسط عائلة كاثوليكية مثقفة، والده هو هنري ديغول أستاذ مادة التاريخ والأدب وأمه جان مايو ديغول ابنة عم والده.

تزوج ديغول من إيفون فاندرو يوم 6 أبريل/نيسان 1920 في مدينة كاليه شمالي فرنسا، وأنجب منها 3 أطفال، هم فيليب وإليزابيت وآن.

الدراسة والتكوين

بدأ ديغول تعليمه الابتدائي في إحدى المؤسسات الكاثوليكية، ثم انتقل إلى بلجيكا وقضى فيها فترة وجيزة إلى أن أكمل دراسته الثانوية، ثم عاد إلى بلده، وأعد لدخول كلية سان سير إحدى أعرق الكليات العسكرية في فرنسا.

وفي سن الـ18 حقق حلم طفولته، والتحق بأكاديمية سان سير العسكرية عام 1908، وبعد انقضاء 4 سنوات تخرج فيها برتبة ملازم (1912)، ثم انضم إلى سلاح المشاة بقيادة المارشال فيليب بيتان.

التجربة العسكرية

عقب تخرجه عيّن ديغول في الفرقة الـ33 لمشاة القوات المسلحة الفرنسية، وقاد بلاده إلى كسب معارك كثيرة في الحرب العالمية الأولى على الرغم من تعرضه للإصابة في 3 مناسبات، قبل أن تعتقله القوات الألمانية أثناء مشاركته في معركة فردان عام 1916، وظل بموجب ذلك أسيرا لمدة عامين و8 أشهر، وحاول خلال هذه الفترة الهرب 5 مرات لكنها باءت جميعها بالفشل، ولم يستعد حريته إلا بعد انتهاء الحرب عام 1918.

وفي الفترة بين (1919-1921) رافق ديغول البعثة العسكرية الفرنسية في دورة تدريبية خاصة ببولندا التي كانت في حرب مع روسيا حينها، وعمل مدربا رئيسيا هناك.

ولدى عودته التحق بالمدرسة الحربية العليا في الثاني من مايو/أيار 1922 وأمضى فيها سنتين، لكن مشاجراته المتواصلة مع أساتذته كادت أن تعيق تخرجه من المدرسة لولا تدخل المارشال فيليب بيتان أكثر من مرة، في حين حرمته أفكاره المعارضة للكيفية والطريقة التي يدار بها الدفاع العسكري الفرنسي من الحصول على كرسي التدريس الذي كان يسعى إليه.

French President Charles de Gaulle (1890 - 1970) speaks at the National Press Club, Washington DC, April 23, 1960. (Photo by Benjamin E. 'Gene' Forte/CNP/Getty Images)
شارل ديغول متحدثا في نادي الصحافة الوطني بواشنطن عام 1960 (غيتي)

وفي عام 1925 عين شارل ديغول نائبا لرئيس المجلس الأعلى للحرب، وبعد سنتين فقط تمت ترقيته إلى رتبة رائد، واشتغل في الجيش المحتل لأراضي الراين في الفترة بين 1927 و1929، ومن هناك استطاع الوقوف بنفسه على مكامن الخطر المحتمل للجيش الألماني، فنبه إلى وجود فجوات كثيرة في الجانب الدفاعي، ثم أُرسل إلى لبنان الذي كان خاضعا للوصاية الفرنسية.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1931 عاد ديغول إلى العمل في وزارة الدفاع بباريس وأمضى فيها 6 سنوات، وكُلف حينها بإعداد مشروع قانون عسكري، قبل أن يرقى إلى رتبة مقدم في 1933.

شدد ديغول خلال هذه الفترة على العمل من أجل إصلاح نقطتين مهمتين تتمثلان في ضرورة إخضاع الجيش لقرارات السياسيين، وتشكيل فرقة مدرعة من الدبابات من أجل تقوية دفاع الجيش، لاقتناعه التام بأن هذا النوع من الأسلحة بإمكانه أن يلعب دورا حاسما في الحروب التالية.

في عام 1937 حصل ديغول على قيادة اللواء 507 المدرع في مدينة ميتز، وحين أعلنت فرنسا وإنجلترا الحرب على ألمانيا في 3 سبتمبر/أيلول 1939 عيّن قائدا لدبابات الجيش الخامس بالنيابة.

وتناول الكاتب ديغول في كتبه ومقالاته مواضيع عسكرية مختلفة انتقد من خلالها اعتماد فرنسا على "خط ماجينو" للدفاع ضد ألمانيا، ودعا إلى ضرورة تشكيل أعمدة مدرعة ميكانيكية، لكن نصيحته لم تؤخذ بعين الاعتبار، فاجتاحت القوات الألمانية فرنسا بسهولة في يونيو/حزيران 1940.

قائد المقاومة

مع نشوب الحرب العالمية الثانية تولى ديغول قيادة دبابات الجيش الخامس، وفشل في وقف الاجتياح النازي رغم محاولته تنفيذ هجمات مضادة في أكثر من مرة.

وفي عام 1940 عيّن وكيلا لوزارة الدولة لشؤون الحرب والدفاع الوطني من قبل رئيس وزراء البلاد بول رينو الذي لم يعمر طويلا في منصبه، وتركه لخلفه المارشال فيليب بيتان.

أقدم رئيس الوزراء الجديد في 17 يونيو/حزيران 1940 على توقيع هدنة مع ألمانيا النازية، فعارض ديغول وزملاؤه العسكريون هذا التوقيع، وفر إلى العاصمة البريطانية لندن.

وبدعم من رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل -الذي ركز جهوده على منع الغزو الألماني لبلاده- دعا ديغول الفرنسيين في 18 يونيو/حزيران إلى مواصلة المقاومة وعدم الخنوع والاستسلام، ووجه نداءه الشهير عبر هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) قائلا "أيها الفرنسيون، لقد خسرنا معركة ولكننا لم نخسر الحرب، وسوف نناضل حتى نحرر بلدنا..".

في 22 يوليو/تموز من السنة نفسها أجبر أدولف هتلر فرنسا على الاستسلام، فقطعت بريطانيا علاقاتها مع الحكومة الفرنسية، وأعلنت اعترافها بالهيئة الوطنية الفرنسية التي أنشأها وكان يرأسها ديغول.

أدانته المحكمة العسكرية الفرنسية في أغسطس/آب 1940 وحكمت عليه غيابيا بالإعدام والحرمان من الرتبة العسكرية ومصادرة ممتلكاته بسبب ما اعتبرته تمردا.

French President Charles de Gaulle (1890 - 1970) speaks at the National Press Club, Washington DC, April 23, 1960. (Photo by Benjamin E. 'Gene' Forte/CNP/Getty Images)
مع نشوب الحرب العالمية الثانية تولى ديغول قيادة دبابات الجيش الخامس الفرنسي (غيتي)

وبمساعدة من ونستون تشرشل أعلن ديغول تشكيل حكومة فرنسية في المنفى وأصبح زعيما لمن سماهم "الفرنسيين الأحرار"، فعمل على جمع الضباط والجنود الفرنسيين الرافضين للاستسلام تحت لواء "القوات المسلحة" التي أصبحت في ما بعد "القوات الفرنسية الحرة"، ونجح في إقناع مستعمرات فرنسية في دول أفريقيا والشرق الأوسط بالانضمام إلى معسكر الحلفاء، وفي عام 1941 شغل ديغول منصب الرئيس المنفي والمعترف به من طرف الحلفاء.

عندما عادت العلاقات بين "فرنسا الحرة" والمقاومة الداخلية إلى مجاريها عام 1942 كلف ديغول رفيق دربه جان مولين بإنشاء المجلس الوطني للمقاومة في فرنسا، وذلك بمشاركة كل القوى الوطنية الرافضة للاحتلال النازي -بما في ذلك الأحزاب السياسية والنقابات وحركات المقاومة- من أجل تنسيق القتال وتحرير الأراضي الفرنسية من الاحتلال الألماني.

في أغسطس/آب 1944 وصل ديغول إلى فرنسا، وشرع الحلفاء في تحرير البلاد، فتمكن بمعية الفرقة المدرعة الثانية وحركة المقاومة الشعبية من إجبار القوات الألمانية تحت قيادة الجنرال ديتريش شولتز على الاستسلام.

تمكن ديغول في مدة لم تتجاوز 4 سنوات من رسم طريق المقاومة واستعادة الاستقلال الفرنسي، وفي أغسطس/آب 1944 استُقبل في باريس استقبالا شعبيا كبيرا، وأصبح رئيسا للحكومة المؤقتة.

على رأس الحكومة المؤقتة

أنجز ديغول المهمة التي كلف بها نفسه، وقاد فرنسا إلى تحرير أراضيها واستعادة الجمهورية، وفرض نفسه على رأس الحكومة المؤقتة، فحرص على إجراء انتخابات حرة وديمقراطية، ثم عمل على إجراء التحديث الاقتصادي والاجتماعي للبلد.

ترأس ديغول الحكومة المؤقتة للجمهورية الفرنسية في الفترة الممتدة بين 1944 و1946، وأشرف على إصلاحات كثيرة عارض من خلالها فكرة السلطة التنفيذية المحدودة التي نادت بها أغلبية البرلمانيين، والتي أزعجها عودة النظام الحزبي الذي أدى إلى شل الجمهورية الثالثة، حيث كان يرى أن السلطة التنفيذية ضعيفة جدا مقارنة بالسلطة التشريعية، ووفقا له فإن الخلافات بين الأحزاب السياسية ستؤدي إلى إبطاء اتخاذ القرارات المهمة.

أخفق شارل ديغول في إقناع النخبة المحلية بالتخلي عن النظام البرلماني واعتماد النظام الرئاسي، مما دفعه إلى تقديم استقالته من رئاسة الحكومة عام 1946 عقب استفتاء عام في فرنسا.

وفي 14 أبريل/نيسان من العام التالي أسس ديغول "حزب تجمع الشعب الفرنسي"، ورغم تحقيقه بعض النجاحات الانتخابية فإن انتقادات الأحزاب جعلته يهجر السياسة في 1953، ليعتكف في بيته ببلدة "كولومبي لي دو زيغليز" شمال شرقي البلاد مكرسا جل وقته لكتابة مذكراته.

French President Charles de Gaulle (1890 - 1970) speaking in Paris about Britain's entry into the Common Market, 28th November 1967. (Photo by Reg Lancaster/Daily Express/Getty Images)
ديغول ترأس الحكومة المؤقتة للجمهورية الفرنسية في الفترة الممتدة بين 1944و1946 (غيتي)

رئيس الجمهورية الخامسة

أمام عجز "الجمهورية الرابعة" في التصدي للثورة الجزائرية عام 1954، ومع ظهور بوادر اهتزاز الاستقرار الداخلي للبلاد، ووسط ترويج مسؤولين فكرة وجوب تكليف ديغول بالسلطة من أجل إنقاذ فرنسا بعد اعتزال هذا الأخير للسياسة طلب رئيس الجمهورية آنذاك رينيه كوتي في 29 مايو/أيار 1958 من ديغول العودة إلى رئاسة الحكومة، لكن ديغول اشترط مقابل ذلك إجراء تعديلات عميقة على دستور البلاد.

وافق الشعب الفرنسي على عودة ديغول إلى السلطة مجددا، وصوّت له رئيسا للجمهورية الخامسة، فبادر إلى وضع دستور جديد يقوي فصل السلطات ويعزز مكانة رئيس الجمهورية، وينص على انتخابه بالاقتراع العام المباشر، فقدمه إلى الفرنسيين في استفتاء حاز على 80% من أصوات الناخبين.

وأطلق ديغول مفاوضات مع الثوار الجزائريين انتهت بتوقيع اتفاقيات "إيفيان" الرامية إلى وقف إطلاق النار، ووضع حد لحرب دموية دامت 8 سنوات، والإعلان عن استقلال الجزائر عام 1962.

وقد واجه على إثر هذا الاستقلال حملة معارضة شرسة من داخل فرنسا ومن المستوطنين الفرنسيين المقيمين في الجزائر، حيث اتهم بالخيانة من قبل عسكريين كثيرين لإنهائه احتلالها.

تميز الجنرال ديغول بفكره المناهض للاستعمار، إذ انتقد احتلال إسرائيل أراضي عربية إبان حرب 1967، كما حصلت دول أفريقية عدة على استقلالها بسلاسة في فترة رئاسته.

محاولات اغتيال

نجا الجنرال ديغول في فترة رئاسته من 5 محاولات اغتيال، أولاها في 8 سبتمبر/أيلول 1961 في بونت سور-سين عندما انفجرت زجاجة غاز مملوءة بمواد بلاستيكية أثناء مرور سيارته.

وفي 23 مايو/أيار 1962 أطلق عليه مسلح النار أثناء وهو على سلم الإليزيه، وخرج سالما.

وفي هجوم آخر عُرف باسم "هجوم بيتي كلامار" نجا ديغول بأعجوبة من الموت عندما تعرضت سيارته في 22 أغسطس/آب من السنة نفسها لوابل من الرصاص من قبل المقدم جان ماري باستيان-ثيري الذي كانت لديه عداوات ومشاعر كراهية عميقة تجاه الرئيس الفرنسي، واتهمه بالخيانة منذ إعلانه استقلال الجزائر.

وفي 31 يوليو/تموز 1963 أفشلت مؤامرة أخرى لاغتياله حاك خيوطها في المدرسة العسكرية جورج فاتين.

وفي 14 أغسطس/آب 1964 لم تنفجر قنبلة كانت مخبأة في وعاء، وتم اكتشافها بعد أيام في جبل مونت فارون الذي يرتفع 584 مترا فوق مدينة تولون.

استقالة أخيرة

في عام 1968 وجد ديغول نفسه أمام أزمة اقتصادية طاحنة عصفت بفرنسا، إذ هزت المظاهرات "العنيفة" لطلاب الجامعات والعمال جميع أرجاء البلاد، مما تسبب في إضراب عام أدى إلى شل الحركة بالبلاد، وتعرضت من خلاله الجمهورية الخامسة لخطر السقوط.

أمام هذا الوضع الحاد ووسط كل هذه الاحتجاجات طرح ديغول استفتاء للشعب الفرنسي بشأن مشروع حكومة لإصلاح الجهوية في البلاد، وبعد تصويت أغلبية الفرنسيين ضده فضل الاستقالة من رئاسة الجمهورية، وعلى إثر ذلك تولى رئيس مجلس الشيوخ ألان بوهر منصب الرئيس بشكل مؤقت، قبل أن تشهد البلاد انتخابات في يونيو/حزيران من السنة نفسها، والتي انتهت بتنصيب جورج بومبيدو رئيسا للجمهورية.

حسم يوم 27 أبريل/نيسان 1969 المصير السياسي لشارل ديغول، فاعتزل الحياة السياسية للمرة الأخيرة، وتقاعد بمنزله في "كولومبي لي دو زيغليز"، وكرس بقية حياته لكتابة مذكراته إلى أن توفي عن عمر يناهز 80 عاما.

UNSPECIFIED - JANUARY 01: General Charles De Gaulle, 1968 (Photo by Keystone-France/Gamma-Keystone via Getty Images)
شارل ديغول اعتزل الحياة السياسية عام 1969 وكرس بقية حياته لكتابة مذكراته حتى وفاته (غيتي)

مؤلفاته

أصدر شارل ديغول كتابه الأول "الخلاف في بيت العدو" عام 1924، وكتابه الثاني "حد السيف" في 1932، وكتابه الثالث "نحو جيش محترف" عام 1934، ثم كتابه الرابع "فرنسا وجيشها" في 1938، كما شرع في كتابة العديد من مذكراته الشخصية مثل (الأمل، الوحدة، النفير)، وغيرها من المذكرات.

الجوائز والإنجازات

حصل شارل ديغول خلال مسيرته المهنية على العديد من الجوائز والأوسمة، من بينها:

  • وسام الصليب الأعظم الخاص من درجة استحقاق لجمهورية ألمانيا الاتحادية.
  • السلسلة الفيكتورية الذهبية.
  • المواطن الفخري لمدينة بروكسل.
  • وسام الوردة البيضاء لفنلندا.
  • الصليب الأكبر من وسام الاستحقاق الوطني.
  • وسام جوقة الشرف في فرنسا.
  • الوشاح الأكبر لوسام الأرز الوطني.
المصدر : الجزيرة