مهاتما غاندي.. زعيم ثورة "المنبوذين" في الهند

مهاتما غاندي محام وزعيم سياسي هندي ولد عام 1869، أسس لفكر سياسي جديد بعيد عن العنف والتمييز بين الأشخاص. قضى حياته في النضال ضد الاستعمار البريطاني لتحقيق استقلال بلاده، اغتيل عام 1949.

المولد والنشأة

ولد موهندَس كَرَمْشاند غاندي يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول 1869 في بوربندر بمقاطعة غوجارات، التي كانت تعرف باسم سودامابوري، شمال غربي الهند.

قضى طفولته وسط عائلة تعد من عِلية القوم، وترعرع بين أحضان أسرة غنية محافظة. عائلته هندوسية من أتباع ما يسمونه "الإله فيشنو"، ولها تجربة كبيرة في العمل السياسي، وذات مكانة اقتصادية واجتماعية.

كان شديد التعلق بوالده كَرَمْشاند أوتامشاند الذي كان عضوا في محكمة راجاسانيك، وشغل منصب كاتب في إدارة الدولة، قبل أن يصبح رئيس وزراء إمارة بوربندر، شأنه شأن جده الذي كان بدوره رئيس وزراء الإمارة نفسها.

أما والدته فقد كانت على دراية بشؤون الدولة، إضافة إلى كونها شديدة التدين، وغرست فيه الأخلاق الهندوسية، حسب ما أورد في سيرته الذاتية.

كبُر في وسط يلتزم بالمعتقدات الدينية الصارمة ويخضع للتقاليد والأعراف، فاضطر إلى أن يتزوج وهو ابن الـ13عاما من فتاة تكبره بعام واحد اسمها كاستوربا، وأقيم له عرس مشترك مع أخيه الذي يكبره بسنة.

إبان مرحلة المراهقة اعترف غاندي أنه بدأ يزيغ عن التربية العائلية المتشددة، وأخذ يتمرد عليها، إلا أنه سرعان ما عاد إلى المبادئ الهندوسية التقليدية التي تلقاها في الوسط الأسري.

ويكشف قائلا "وقعت بين فكّي الخطيئة، لكن الله برحمته الواسعة حماني من نفسي"، والتزم فيما بعد بعهد البراهماشاريا الطواعية، أي التحكم في شهوات النفس.

Indian nationalist leader Mahatma Gandhi (Mohandas Karamchand Gandhi, 1869 - 1948) eating at his home, whilst living in seclusion after his release from prison by the British authorities. (Photo by Topical Press Agency/Getty Images)
المهاتما غاندي في منزله أيام عزلته بعد إطلاق السلطات البريطانية سراحه من السجن (غيتي)

الدراسة والتكوين

دخل المدرسة الابتدائية في راجكوت بولاية غوجارات في السابعة من عمره، ثم انتقل إلى مدرسة في الضاحية. ولما بلغ سن 12 عاما انتقل إلى المدرسة الثانوية.

بسبب مستواه الدراسي المتوسط وطبعه الخجول، لم يصاحب أحدا في المدرسة، واكتفى بالاهتمام بدراسته.

يعدّ "شرافانا بيتريباكتي ناتاكا" أول كتاب قرأه خارج المقرر الدراسي وتأثر به، وهو مسرحية تتحدث عن برّ شرافانا بوالديه، وعدّه نموذجا يحتذى به، خصوصا بعد أن التقى بمؤلفه خلال جولة مسرحية.

تخلف عن الدراسة لعام كامل بسبب زواجه، إلا أنه في العام الموالي استأنف تعليمه في المدرسة الثانوية، وحصل على الجوائز في الصف الثاني، كما حالفه الحظ في الصفين الخامس والسادس، واستفاد من المنحة التي لم تكن متاحة آنذاك للجميع.

اجتاز بنجاح امتحان القبول في الجامعة عام 1887، وقرر الالتحاق بمركز أحمد آباد، فكانت أول رحلة له خارج راجكوت، وسافر وحده خلال عطلة الفصل الأول.

وقع له تحول كبير في دراسته بعد زيارته لعائلته، إذ التقى صديق والده مافجي داف الذي أقنعه بالتوجه إلى إنجلترا لاستكمال دراسته في القانون.

وافقت العائلة على مقترح العالم والحكيم مافجي، الذي أشرف بنفسه على مراسم أخذ العهود، فتعهد الشاب بعدم شرب الخمر أو أكل اللحم أو إقامة علاقة مع النساء، فوافقت والدته على سفره، وأقيم له حفل وداع في المدرسة الثانوية، وشد الرحال إلى إنجلترا عام 1888 وهو في ربيعه الـ19.

ثلاث سنوات كانت كافية لإنهاء مساره التعليمي في إنجلترا، إذ حصل على شهادة البكالوريوس من جامعة لندن، وأصبح عضوا في نقابة المحامين يوم 10 يونيو/حزيران 1891، وفي اليوم التالي أدرج اسمه في المحكمة العليا، ثم عاد إلى بلده يوم 12 يونيو/حزيران من العام نفسه، فصعق بخبر وفاة والدته.

الحياة العملية

بعد رجوعه إلى بلده، بدأ ممارسة مهنة المحاماة من خلال الترافع في قضايا بسيطة في مدينة بومباي. عاش ضائقة مالية، فقبل بعد تردد كبير عرضا مغريا عام 1893 وقرر التوجه إلى جنوب أفريقيا للدفاع عن أعمال شركة ضمن نخبة من المحامين والوكلاء.

بدأ عمله في مكتب المحاماة في ناتال، ودخل تجربة جديدة حافلة بالمتاعب، كما وصفها في مذكراته. وأولى المواقف التي عاشها منعه من ركوب الدرجة الأولى في القطار الرابط بين دوربان وبريتوريا بسبب لون بشرته، إضافة إلى امتعاضه من كون الهنود هناك لا يُتعامل معهم بالاحترام اللازم.

بدأ نضاله السياسي، وعوض أن يعود إلى الهند بعد مرور سنة فقط، ظل في جنوب أفريقيا 22 عاما خصصها للدفاع عن الجالية الهندية وعن حقوق الإنسان والدعوة إلى إقرار المساواة.

شكل مشروع قانون يحرم الهنود من حق التصويت على أعضاء المجلس التشريعي بناتال، القضية التي جعلته يفك حقائبه بعد أن كان يستعد للعودة إلى وطنه، ويحوّل حفل وداعه إلى لجنة عمل لمناهضة المشروع.

وناضل من أجل كرامة الجالية الهندية رفقة أصدقاء تقاسموا معه موقفه، إلى حين إسقاط المشروع المذكور، ومنذ ذلك الحين، سطع نجمه وأصبح محاميا يحسب له ألف حساب.

مزج مساره المهني بتجربته السياسية حين أقنع الإنجليز في مارس/آذار 1894 بالتراجع عن منع الهنود من التصويت في جنوب أفريقيا، ثم بادر بتأسيس مؤتمر ناتال الهندي، الذي مهّد للجالية الهندية الطريق لتصبح قوة سياسية في جنوب أفريقيا.

التجربة النضالية

بمجرد رجوعه من جنوب أفريقيا إلى بلده عام 1915، وبعد عمل وطني لمدة وجيزة، أصبح زعيما ذا شعبية واسعة وسبقته سمعته بصفته رجل تسامح وسلام. وندد أولا بالقوانين الاستعمارية المعمول بها في البلاد، ثم كرس نضاله من أجل استقلال بلده.

ركز على مناهضة الظلم الاجتماعي من جهة، ومن ناحية ثانية مقاومة الاستعمار. اهتم بدرجة كبيرة بمشاكل العمال والفلاحين وفئة المنبوذين، التي أطلق عليها تسمية "أبناء الإله"، مبادرا بتنظيم حملات لوضع حد للتمييز الطبقي داخل المجتمع الهندي.

Indian pacifist Mahatma Gandhi on the transit at Lyon train station in Paris. Right beside him - his secretary Miss Glade. Photograph. About 1930. (Photo by Imagno/Getty Images) Der indische Pazifist Mahatma Gandhi auf der Durchfahrt im Bahnhof Lyon in Paris. Rechts neben ihm - seine Sekretärin Miss Glade. Photographie. Um 1930.
غاندي خلال إحدى محطات الانتظار لقطار ليون المتجه إلى باريس وبجانبه سكرتيرته غليد (غيتي)

التمس منه الحاكم البريطاني في الهند عام 1918 المشاركة في مؤتمر دلهي الحربي، لقبول التعاون مع بريطانيا إبان الحرب العالمية الأولى على دول المحور، إلا أنه سرعان ما أشهر معارضته المباشرة والشديدة للسياسة البريطانية بين 1918 و1922.

حين طالب باستقلال الهند التام عن الاستعمار البريطاني، وجه إليه خصومه السياسيون انتقادات بسبب موقفه، إذ تأرجحت مواقفه من الاحتلال بين المرونة والصلابة. وجلبت له متاعب وبدأت بعض الأصابع تشير إلى تخوينه والتشكيك في مصداقيته النضالية والسياسية.

قاد عام 1922 حركة عصيان مدني دعا فيها إلى عدم التعاون مع الاحتلال وخوض الإضراب الضريبي، مما صعّد الغضب الشعبي الذي وصل في بعض الأحيان إلى صدام بين الجماهير وقوات الأمن والشرطة البريطانية، مما دفعه إلى إيقاف هذه الحركة.

تعرض للاعتقال يوم 10 مارس/آذار 1922 بتهمة التحريض على الفتنة، وحكمت عليه السلطات البريطانية بالسجن 6 سنوات، لكنها أفرجت عنه عام 1924.

واصل نضاله وأعلن عن تنظيم مسيرة الملح، ما بين 12 مارس/آذار و6 أبريل/نيسان 1930، بهدف إسقاط ضريبة الملح لأنها منعت جميع الهنود من إنتاج الملح الخاص بهم وألزمتهم بدفع ضريبة عنه، وبتعبئة من غاندي، شارك في المسيرة السلمية آلاف الهنود الذين مشوا على الأقدام من أحمد آباد إلى داندي.

ذاع صيته خارج الحدود الهندية، وبدعوة من الرابطة النسائية الدولية للسلام والحرية، ألقى محاضرتين في سويسرا، التي زارها بين 6 و11 ديسمبر/كانون الأول 1931.

منذ عام 1932 بدأت حركاته الاحتجاجية تتصاعد وتتنوع أشكالها، فقد دخل في صيام حتى الموت ضد مشروع قانون يذكي التمييز الطبقي في الانتخابات ويهمش "المنبوذين" الهنود الذين كانوا يعدّون الطبقة الخامسة في المجتمع، فكانت النتيجة تدخل زعماء سياسيين ودينيين ومحاولة الوصول إلى "اتفاقية بونا"، التي نصت على رفع عدد النواب من "المنبوذين" وإلغاء نظام التمييز الانتخابي.

وبعد أن غادر صفوف حزب المؤتمر عام 1934 حوّل اهتمامه إلى الجانب الاقتصادي وانشغل بالصعوبات التي تعانيها المناطق القروية، ثم عاد مرة أخرى إلى حملات العصيان عام 1940 احتجاجا على بريطانيا، التي أعلنت الهند دولة محاربة إلى جانب جيوش المحور دون أن تنال استقلالها، واستمر عصيانه حتى عام 1941.

توتر الوضع، واضطرت السلطات البريطانية إلى بحث سبل المصالحة مع الحركة الاستقلالية الهندية، ففشلت في مسعاها عام 1942، وفي العام الموالي قبل مقترح دخول الهند في حرب شاملة على دول المحور مقابل حصول بلده على الاستقلال.

27th September 1931: Indian thinker, statesman and nationalist leader Mahatma Gandhi (Mohandas Karamchand Gandhi) (1869 - 1948) arriving at Greenfield Mills, Darwin, Lancashire during his tour of Britain. (Photo by Keystone/Getty Images)
غاندي يصل إلى غرينفيلد ميلز عام 1931 خلال جولته في بريطانيا (غيتي)

لكنه استمر في خوض احتجاجات تعرض بسببها إلى الاعتقال رفقة أعداد من المحتجين، وبعد دنو حصول الهند على الاستقلال عام 1945، أخذ على عاتقه مسؤولية إقناع مختلف التيارات الهندية بعدم تقسيم الدولة إلى دولتين هندوسية ومسلمة، إلا أن جميع محاولاته باءت بالفشل.

وبانقسام الهند في أغسطس/آب 1947 وجد نفسه أمام مهمة إخماد نيران النزاعات والصراعات الدينية، داعيا إلى وحدة وطنية تقوم على احترام الحقوق، وخاض إضرابا عن الطعام لحث المتخاصمين على إنهاء العنف يوم 13 يناير/كانون الثاني 1948، وقال جملته الشهيرة "الموت بالنسبة لي خلاص مجيد بدلا من أن أكون شاهدا عاجزا على تدمير الهند والهندوسية والسيخية والإسلام".

الفكر السياسي

شكلت المرحلة التي عاشها -سواء في بلده أو في إنجلترا ثم في جنوب أفريقيا- فرصة بلور من خلالها فكرا سياسيا يقوم على محاربة العنف ونبذه، مقابل اختيار السلم والسلام.

في رأيه كل شيء يحل بالسلم، حتى الاستعمار يمكنه أن ينجلي من دون مقاومة مسلحة. وأسس في عالم السياسية لما بات يعرف بفكر "المقاومة السلمية". وكان سباقا لاستبعاد خيار الحرب، وتبني أشكال اللاعنف من قبيل العصيان المدني والاعتصامات والاحتجاجات السلمية والإضراب عن الطعام والمقاطعة، وغيرها من الأساليب السلمية التي لجأ إليها في عدد من المحطات الحرجة، والتي ما زال العمل بها جاريا كوسائل للضغط لانتزاع المطالب والحقوق.

فكره السياسي أضحى تجربة فريدة من نوعها، وتحدثت بعض الدراسات في العلوم السياسية عن "التجربة الغاندية"، التي تلتها فيما بعد بعض التجارب المماثلة مثل تجربة نلسون مانديلا في جنوب أفريقيا وتجربة مارتن لوثر كينغ في أميركا.

لا يؤمن بالفصل بين السياسة والدين، ويرى أن من يفصل بين السياسة والدين لا يعرف المعنى الحقيقي للدين، لذلك أرسى لمبادئ جمعت بين الأسس الدينية والسياسية والاقتصادية، وتحدث عن "الضمير الأخلاقي" أو "الصوت الداخلي".

عدّ بطلا في نبذ العنف ومدافعا عن الحقوق المدنية، من خلال الثلاثي "الشجاعة والحقيقة واللاعنف"، وإمكانية إلحاق الهزيمة بالمحتل عن طريق الوعي العميق بالخطر المحدق وتكوين قوة قادرة على مواجهة هذا الخطر أولا باللاعنف شريطة أن يكون للخصم ضمير، ثم بالعنف إذا لم يوجد خيار آخر.

الوفاة

بعد مسيرة نضالية فاقت 30 سنة من المطالبة باستقلال الهند، لم ينعم كثيرا بفترة ما بعد جلاء الاستعمار البريطاني لبلاده، إذ بدأ تجربة نضالية من نوع خاص تمثلت في دفاعه عن المسلمين ضد بعض المتعصبين من بني ديانته الهندوسية ونادى باحترام حقوقهم، فكان الثمن أن تعرض للاغتيال من قبل أحد المتعصبين.

وتفيد بعض التقارير أن القاتل قومي هندوسي يدعى ناثورام جودسي، ممن رأى في موقفه خيانة عظمى، وأرداه قتيلا يوم 30 يناير/كانون الثاني 1948.

شيّعه إلى مثواه الأخير في نيودلهي ملايين من الهنود، وأصبح قبره قبلة لرؤساء الدول وللضيوف الذين يزورونه على هامش حضورهم المناسبات في الهند.

وقررت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2007 جعل ذكرى ميلاده الذي يوافق يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول، يوما عالميا لنبذ العنف، باعتبار أن اسمه اقترن بالسلام والتسامح ونبذ العنصرية.

نُصب تمثاله في الساحات العامة بأكثر من 50 دولة، من بينها تمثال نصفي، يعد أطول تمثال في العالم تم إهداؤه للأمم المتحدة عام 2022، صنعه من مادة البرونز النحات الهندي الشهير رام فانجي سوتار، ويبلغ ارتفاعه حوالي 237 سنتمترا، وبعرض يقارب 173 سنتمترا، كتب في أسفله مقولته الشهيرة "لا يوجد طريق للسلام، بل السلام هو الطريق".

المصدر : الجزيرة