فضيحة ألف.. زواج المصالح بين فرنسا وديكتاتوريي أفريقيا

شعار لشركة إلف الفرنسية
فضيحة مالية وسياسية تُصنف أكبر فضيحة من نوعها في تاريخ أوروبا المعاصر، هزت فرنسا في تسعينيات القرن الماضي وتُوبع فيها رجال أعمال وساسة فرنسيون وأفارقة، أبرزهم حينها وزير الخارجية الاشتراكي رولان ديما، وشكلت عنوانا بارزا ومفصلا حديا في علاقات فرنسا بـأفريقيا والشبكات القائمة عليها منذ عهد الجنرال ديغول المعروفة بشبكات "فرانس-أفريك".

جوهرُ الفضيحة هو عمليات اختلاس وتزوير واسعة استحوذت بموجبها مجموعة من أطر شركة "ألف آكيتين البترولية" ورجال أعمال وساسة فرنسيون وأفارقة على أكثر من 300 مليون يورو من أموال الشركة المملوكة للدولة بين عامي 1989 و1993، مع أن عمليات أخرى مشبوهة تُصنف في نطاق الفضيحة جرت طيلة العهدة الرئاسية الثانية للرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران.

الشرارة
تفجرت فضيحة شركة ألف عام 1994 إثرَ كشف لجنة مراقبة عمليات البورصة تمويلاتٍ مشبوهة لشركة "ألف آكيتين" ومصرف "لكريدي اليونيه" لشركة للنسيج تُدعى "بيدرمان" نسبة إلى مالكها، موريس بيدرمان، الذي سينكشف ضلوعه في الفضيحة.

بينت التحريات وجود شبكة واسعة تمارس الرشوة والتزوير في إجراء تحويلات مالية كبيرة تم جنيها من نشاطات الشركة في أفريقيا، ويتم توجيهها إلى فرنسا عبر مصارف أوروبية خاصة المصارف السويسرية خدمة لرجال سياسية وأعمال فرنسيين وأفارقة.

كما تبيَّن أنَّ شركة بيدرمان للنسيج ليست إلا واجهة لتبييض الأموال التي تحولها الشركة النفطية لفائدة شخصيات سياسية فرنسية من اليمين واليسار على حدٍ سواء. باختصار بيَّنت التحقيقات مدى تلوث الحياة السياسية الفرنسية بالمال الخارجي القادم من أفريقيا بطرق غير قانونية.

لمحة تاريخية
شركة ألف آكيتين هي شركة المحروقات الرئيسة في فرنسا ولها حضورٌ واسع في المستعمرات الفرنسية السابقة في أفريقيا بل حتى في أفريقيا الأنغلوفونية مثل نيجيريا وكذلك أنغولا المستعمرة البرتغالية السابقة.

تأسست الشركة في أواسط ستينيات القرن الماضي بأمرٍ من الجنرال ديغول الذي كان مسكونا بمكانة فرنسا على الساحة العالمية، وكان يرى أنَّ فرنسا لا يُمكنها أن تكون قوة عالمية ما لم تتمتع باستقلالٍ مطلق في مجال الطاقة.

وفي ضوء خروج فرنسا من الجزائر عام 1962 بعد حرب ضروس أنتجت عداوة دائمة، رأى ديغول أنّ على فرنسا أن تتوجه إلى مستعمراتها السابقة في أفريقيا بحثًا عن مصادر آمنة ودائمة للطاقة، وهكذا كانت الغابون أول وجهةٍ لشركة ألف حيث أقامت آبارها الأولى هناك ثم توسعت لاحقًا ورسخ وجودها إلى أن صارت محددا أساسيا لعلاقات فرنسا وأفريقيا.

أسند شارل ديغول قيادة ألف لأحد رجال ثقته هو بيير غيوما وهو مهندس معادن وكان نشطا في صفوف مخابرات فرنسا الحرة إبان الاحتلال النازي.

ولحماية أنشطة ألف وضمان تدفق النفط الأفريقي كان لابد من وضع آلية لحماية الأنظمة الموالية والتخلص من المناوئة لفرنسا وضمان الانتقال السلس للسلطة عند الحاجة إلى ذلك، فقد كان ديغول يرى أنّ عدم الاستقرار السياسي في أفريقيا يضر مصالح فرنسا.

أسندت مهمة وضع هذه الآلية لرجل ثقة الجنرال رجل الأعمال العارف بأفريقيا وصاحب االعلاقات التجارية الواسعة فيها جاك فوكار الذي سيُؤسس شبكات فرنسا-أفريقيا التي ستظل ترسم الجزء الأهم من علاقات باريس بأفريقيا إلى اليوم.

ورغم ما أعلنه الرئيس الاشتراكي فرانسوا هولاند في زيارته الأولى للقارة من نهاية شبكات فوكارد، فإنَّ لسان الحال يقول عكس ذلك. ومن شواهد ذلك سكوت فرنسا عن تعديل رئيس توغو فور نياسنغبي أياديما، للدستور كي يتسنى له البقاء في السلطة، كما غضت فرنسا الطرف عن واقع حقوق الإنسان في عدد من البلدان الأفريقية للاعتبارات نفسها.

السياق
تفجرت فضيحة ألف في سياق ما بعد الحرب الباردة، الذي كان يعني بالنسبة لفرنسا نهاية مباركة الغرب لدورها كدركي مؤتمن على أفريقيا الفرنكفونية في مواجهة التهديد الشيوعي، وكان الغرب الأنغلوفوني قد بدأ يُزاحم فرنسا على موارد الطاقة والمعادن في مستعمراتها الأفريقية السابقة.

وفي ضوء التحدي الجديد، عمد الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران إلى وضع يد الدولة على شركة ألف مدفوعًا بأمرين، أولهما إضفاءُ طابع رسمي على الشركة بما يُسهّل تدخل الدولة لصالحها لدى الحكومات الأفريقية في وجه المنافسة الشرسة للشركات الأميركية والبريطانية والكندية.

أما الدافع الثاني فالاطمئنان إلى ضمان استمرار حصول فرنسا على النفط والغاز الأفريقي الحيوي لاستقلالها في مجال الطاقة والضامن لعدم تأثرها بتقلبات السوق العالمية.

بيد أنّ ألف ظلَّت، منذ نشأتها بأمرٍ من الجنرال ديغول في ستينيات القرن الماضي، ديغولية الهوى والنزعة وكذلك كان أغلب القادة السياسيين في أفريقيا الفرنسية.

وفي ضوء ذلك أصبحت الشركة تابعة للحكومة الاشتراكية لكنّ نفوذ الديغوليين بقي قويا فيها مُستفيدا من دعمٍ لا يلين لزعماء أفارقة لهم وزنهم الكبير مثل الرئيسين الراحلين الغابوني عمر بونغو والعاجي فليكس هوفويت بواني والكونغولي دنيس ساسو نغيسو.

وقد ظلت ألف تخدم هذه الشراكة المتينة عبر تحويلاتها المشبوهة التي يستفيد منها رجال السياسة في فرنسا بما يُمكّنهم من الاحتفاظ بيدٍ في السلطة يُؤمّنون مقابلها دعما سياسيا دائما للزعماء الأفارقة، وفي الجهة المقابلة تُوفر شركة ألف واستثماراتها المشبوهة غطاءً مريحًا للقادة الأفارقة من أجل تبييض أموالهم وأملاكهم العقارية في فرنسا وأوروبا عموما.

الفضيحة
ما إن اكتشفت لجنة مراقبة عمليات البورصة التمويلات المشبوهة لبيدرمان من قبل ألف ومصرف ليون حتى أحالت القضية إلى العدالة، فقد كان جليا دافع التحايل والتدليس في القضية، فشركة بيدرمان كانت تواجه مشاكل مالية وفجأة إذا بالمؤسستين تَضخان فيها أموالا طائلة مع أنّ أفق إنقاذها كان مسدودا تماما.

أوكلت قضية فضيحة ألف لثلاثة قضاة تحقيق تقودهم "إيفا جولي" التي ستدفع القضية بشهرتها إلى آفاقٍ بعيدة؛ لأنّها كانت معروفة في فرنسا بتوليها قضايا شائكة مدارُ أغلبها الرشوة واستغلال النفوذ والتزوير، ممّا يعني أنَّها كانت مؤهلة تماما لفتح أكبر فضيحة سياسية ومالية في تاريخ فرنسا وأوروبا.

توبع في القضية 37 شخصا بين أطر في الشركة ورجال أعمال وساسة أبرزهم وزير خارجية فرانسوا ميتران، رولاند ديما، الذي كشف تفتيشُ حسابات الشركة وجودَ تحويلات بملايين الفرانكات الفرنسية لصالحه.

كما وجد في حسابه الخاص مبلغ 11 مليون فرنك فرنسي منها ثلاثة ملايين فرنك نقدا، وقد حُكم على ديما بالسجن ثلاث سنوات منها واحدة نافذة، وغرامة مالية كبيرة.

وفضلا عن ضلوعه، كشفت فضيحة ألف علاقة سرية تربط ديما بسيدة تُدعى كريستين ديفييه جونكور اكتتبتها الشركة بطلبٍ من ديما بأجرٍ يفوق 20 ألف فرنك فرنسي في الشهر. وقد تبين خلال التحقيق أن السيدة جونكور تتوفر على حسابات بسويسرا بها أكثر من 50 مليون فرنك فرنسي.

طالت القضية الرئيس الأسبق جاك شيراك إذ عُثر على تحويلات لشركة بيدرمان يُعتقد أنها كانت موجهة لدعم حملته للتشريعيات، كما طالت وزير الداخلية شارل باسكوا.

اعتُقل في القضية كذلك لوييك لفلوك برجيان رئيس شركة ألف بين 1989 و1993 وحكم عليه بالسجن خمس سنوات بحكم أنّه المسؤول الأول عن الفضيحة.

وبعد أن أُخلي سبيله عام 1996 تم اعتقاله في 2002 مجددا رغم أنّه كان حينها مديرا للشركة الوطنية للسكك الحديدية وهي سابقة في فرنسا.

وقد دفع تداخل نطاق التحقيقات مع المصالح الإستراتيجية للدولة بالخارجية الفرنسية إلى رفع صفة أسرار الدفاع عن عدد من الوثائق التي كان القضاة يحتاجون إليها.

وقد تُوبع في القضية 37 شخصا حُكم على 30 منهم بمُدد سجن متفاوتة وبإرجاع الأموال التي استحوذوا عليها في سياق الفضيحة التي لم يُغلق القضاء جزأها المتعلق بالرشوة والاختلال المالي إلا عام 2007.

النتائج
انتهت فضيحة ألف بإقبارِ الشركة نهائيا وعرضها للتخصيص ليتحول اسمها إلى توتال، رغم أنّ الدولة الفرنسية ظلت تؤكد الطابع الإستراتيجي للشركة الجديدة بل تتدخل لصالحها من أجل انتزاع صفقات في أفريقيا والعالم عمومًا.

وفي بعدها السياسي، عرَّت فضيحة ألف شبكات فرنسا-أفريقيا التي كانت إطارا مافيويا يعمل في الظل بعيدا عن كل رقابة برلمانية، وإنْ كان مراقبون في فرنسا وأفريقيا يعتقدون أنّ شبكات جاك فوكار لا تزال قائمة ولكنّها وجدت مناهج وآليات أخرى للعمل بشكل أكثر سرية مستفيدة من العولمة الاقتصادية وما تتيحه من أسباب التخفي وسهولة تنقل رؤوس الأموال وإنشاء الشركات العابرة للحدود.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية