أرمينيا وأذربيجان.. تاريخ طويل من الحروب والصراعات حول قره باغ

بدأت الصراعات بين أرمينيا وأذربيجان عقب استقلالهما عن الإمبراطورية الروسية يوم 28 مايو/أيار 1918، فدخلتا في نزاعات إقليمية حول الأراضي التي ترى كل منهما أنها ملك لها تاريخيا وعرقيا، وأهمها إقليم ناغورني قره باغ.

واستمرت الصراعات بين أرمينيا وأذربيجان بين عامي 1918 و1920، لكن هذه الصراعات سرعان ما توقفت بعد انضمامهما إلى الاتحاد السوفياتي سنة 1922.

وسرعان ما عادت تلك الصراعات إلى الاشتعال مرة أخرى مباشرة بعد الإعلان عن تفكك الاتحاد السوفياتي سنة 1991، مسفرة عن حروب دامية بين البلدين خلفت آلاف القتلى ومئات الآلاف من السكان النازحين، مما تسبب في أزمة سياسية كبيرة امتدت لأكثر من قرن.

وجاء ذلك رغم الوساطات الدولية والمحاولات العديدة التي قامت بها مجموعة مينسك (نسبة إلى عاصمة بيلاروسيا التي تم فيها التفاوض)، والتي أنشئت خصيصا سنة 1992 لحل نزاع إقليم ناغورني قره باغ بين أرمينيا وأذربيجان، وتكونت من 17 دولة برئاسة فرنسا وروسيا والولايات المتحدة.

أسباب الصراع

تتجسد أسباب الصراع بين الجارتين -اللتين تقعان على مفترق طرق رئيسي بين أوروبا الشرقية وآسيا الغربية- حول منطقة انفصالية تعرف باسم "ناغورني قره باغ"، وتحاول كل منهما بسط سيطرتها على الإقليم الذي ظل لعقود طويلة مسرحا للتنافس على النفوذ بين المسيحيين الأرمن والمسلمين الترك والفرس.

يتكون اسم هذا الإقليم من مقطعين هما "ناغورني" وتعني باللغة الروسية "الجبلية"، و"قره باغ" وتعني باللغة التركية "الحديقة السوداء"، لكن الأرمن يطلقون على الإقليم اسم "آرتساخ" ومعناها "غابة آر"، و"آر" هو "إله الشمس" عند الأرمن القدماء.

هذه المنطقة الجبلية -التي تبلغ مساحتها نحو 4400 كيلومتر مربع وتسكنها أغلبية عرقية أرمينية محلية- لطالما كانت تشكل جزءا من أذربيجان السوفياتية، لكن في سنة 1987 أطلق السكان الأرمن على هذا الإقليم حملات تطالب بالانفصال عن أذربيجان والانضمام في الوقت نفسه إلى أرمينيا.

تصدت أذربيجان للانفصاليين بالسلاح، في محاولة لقمع المتظاهرين والسيطرة على الوضع، ومن جهتها دعمت أرمينيا المطالبين بالانفصال عن أذربيجان، مما أدى إلى نشوب صراع بين الدولتين ظل قائما حتى انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 لتندلع حرب بين الطرفين أوائل التسعينيات استمرت عامين وأودت بحياة أكثر من 30 ألف شخص من الأذريين والأرمن، قبل أن يحسمها الأرمن لصالحهم.

Signing of the Treaty of Turkmenchay, 1828. Found in the collection of State Hermitage, St. Petersburg. Artist : Beggrov, Karl Petrovich (1799-1875). (Photo by Fine Art Images/Heritage Images/Getty Images)
توقيع معاهدة تركمانشاي عام 1828 بين الإمبراطوريتين الروسية والفارسية (غيتي)

وعلى الرغم من إعلان أرمينيا استقلال "قره باغ" في استفتاء أجري في ديسمبر/كانون الأول 1991 فإن هذا الاستقلال اعتبر أحاديا وغير نظامي، بسبب وضعية المنطقة التي أصبحت حينها تعيش حكما ذاتيا، وهو الأمر الذي ترك فتيل الأزمة بين أذربيجان وأرمينيا مشتعلا، لتتطور الأمور بعد ذلك إلى حرب استمرت لسنوات.

ومن جانب آخر، يعد إغلاق ممر لاتشين من طرف أذربيجان أحد أكثر الأسباب استمرارا للأزمة بين الأرمن والأذريين، باعتباره الطريق البري الوحيد الذي يمنح أرمينيا الوصول المباشر إلى "قره باغ" من جهة، ومن جهة أخرى أدى قرار إغلاق الممر إلى قطع المساعدات الأساسية بشكل تام عن المنطقة التي يسكنها نحو 120 ألف شخص، مما بات يهدد بوقوع كارثة إنسانية بعد حرمان سكان الإقليم من الغذاء والدواء والإمدادات الأخرى.

ويتجدد صراع الجارتين في كل مرة على حدود ناغورني قره باغ المعترف به جزءا من جمهورية أذربيجان من قبل المجتمع الدولي وفقا لأحكام القانون الدولي، وسط تبادل مستمر للاتهامات، إذ أعلنت أرمينيا في أكثر من مرة عن قصف أذربيجان بعض مواقعها العسكرية، متهمة إياها بمحاولة التقدم داخل أراضيها، في وقت تشير فيه أذربيجان إلى قيام أرمينيا بقصف أحد مواقع جيشها بقذائف من العيار الثقيل.

ولم تجدِ الوساطة الدولية نفعا في وضع حد للصراع بين البلدين، إذ اعتبرت جهود جميع الأطراف المتداخلة فيه بغير المحايدة وتخضع بشكل كبير لعامل العلاقات التاريخية والاقتصادية والعسكرية التي تربطها بالمنطقة.

بداية الصراع

تعود جذور الصراع بين أرمينيا وأذربيجان إلى بداية القرن الـ19 عندما أبرمت معاهدة جولستان للسلام سنة 1813 ومعاهدة تركمانجاي للسلام سنة 1828 بين الإمبراطوريتين الروسية والفارسية اللتين قامتا بموجب هاتين المعاهدتين بتوطين جماعي سريع للأرمن من إيران وتركيا في المنطقة، مما أدى إلى تغيير التكوين العرقي في المنطقة تماما.

وقد ساهمت ثورة أكتوبر/تشرين الثاني 1917 في روسيا القيصرية في تأسيس الاتحاد السوفياتي بعد إطاحة البلاشفة بالحكومة الروسية المؤقتة آنذاك بقيادة فلاديمير لينين، حيث تم الإعلان عن تأسيس جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية، وذلك من خلال توحيد الجمهوريات الروسية والأوكرانية والقوقازية (تضم كلا من أذربيجان وجورجيا وأرمينيا)، بالإضافة إلى بيلاروسيا.

وعليه، فإن جذور الصراع بين الجارتين حول ناغورني قره باغ -الذي بات يعرف بالإقليم الملتهب- تعود إلى قرن من الزمن، على الأقل حين أقدم جوزيف ستالين (القائد الثاني للاتحاد السوفياتي) على ضم هذا الإقليم إلى الرسم الحدودي لأذربيجان مع منحه صلاحية الحكم الذاتي داخل جمهورية أذربيجان.

هذا الصراع استؤنف عام 1988 عندما طالب أرمن إقليم قره باغ بانفصال المنطقة عن أذربيجان السوفياتية والانضمام إلى أرمينيا السوفياتية، ليتطور الصراع إلى حرب واسعة النطاق بين البلدين في أوائل التسعينيات بعد تفكك الاتحاد السوفياتي سنة 1991.

بعد ذلك، أعلنت "قره باغ" عن استقلالها بهدف إعادة توحيدها مع أرمينيا، ليكون ذلك أحد أهم أسباب بداية الحرب بين هذين البلدين اللذين رغب كل منهما في ضم المنطقة الصغيرة من القوقاز إلى أراضيه، إذ تقول أرمينيا إن تلك المنطقة ملك لها، معللة ذلك بأغلبية سكانها الأرمن، وخلافا لذلك تعتبر أذربيجان قره باغ أرضا من أراضيها، مما أدى إلى اندلاع الحرب الأولى وأسهم بشكل كبير في نزوح مئات الآلاف الأرمينيين من أذربيجان إلى أرمينيا ونزوح مئات آلاف الأذريين من أرمينيا إلى أذربيجان.

An Azeri service member walks in the area, which came under the control of Azerbaijan's troops following a military conflict over Nagorno-Karabakh against ethnic Armenian forces and a further signing of a ceasefire deal, in Jabrayil District, December 7, 2020. Picture taken December 7, 2020. REUTERS/Aziz Karimov
جندي أذربيجاني يسير في المنطقة التي أصبحت تحت سيطرة قوات بلاده يوم 7 ديسمبر/كانون الأول 2020 (رويترز)

أهم المعارك والمحطات

بدأ الصراع بين أرمينيا وأذربيجان حول بعض المناطق بينهما سنة 1918، وسرعان ما توقفت الصراعات بعض انضمام الجمهوريتين إلى الاتحاد السوفياتي سنة 1922.

استؤنف الصراع من جديد بين البلدين وشهد معارك ومحطات متعددة انطلقت بتمرد أرمن "ناغورني قره باغ " ضد الحكم الأذربيجاني والتصويت للانضمام إلى أرمينيا في 1988، ثم الإعلان عن استقلالها من جانب واحد في 1991، مما ساهم بشكل كبير في دق طبول أول حرب بين البلدين عام 1992.

أسفرت الحرب الأولى عن احتلال أرمينيا مساحة 20% من أراضي أذربيجان، بما فيها إقليم ناغورني قره باغ، بالإضافة إلى سبعة أقاليم أخرى محيطة بها، وانتهى الوضع بالتوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار بين زعماء أرمينيا وأذربيجان وناغورني قره باغ في مايو/أيار 1994 دون التوصل إلى اتفاق بشأن الوضع الذي ستؤول إليه أو سيكون عليه "قره باغ".

وللمساعدة في إيجاد حل للصراع تم تشكيل وسطاء تحت مظلة مجموعة مينسك سنة 1992 والمعروفة حاليا باسم منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، حيث شاركت في رئاستها كل من فرنسا وروسيا والولايات المتحدة.

وفي عام 2006 أقر انفصاليو ناغورني قره باغ دستورا للإقليم باعتباره "جمهورية" مستقلة ومنفصلة عن دولة أذربيجان واختاروا مدينة ستيباناكيرت عاصمة لجمهوريتهم. ودعمت كل من أرمينيا وروسيا الدولة الجديدة، وذلك عبر استكمال بناء مؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقانونية.

وفي 2009 أحرزت المفاوضات بين البلدين تقدما كبيرا بينهما، قبل أن تتوقف مجددا مع تسجيل انتهاكات لوقف إطلاق النار.

واستمرت بعد ذلك المفاوضات بين الطرفين حتى عام 2011 مع عدد من مقترحات السلام، لكن الطرفين فشلا مرة أخرى في التوصل إلى اتفاق يقضي بإنهاء هذا الصراع.

وعادت الاشتباكات من جديد في أغسطس/آب 2014، وأُعلن عن مقتل عدد مهم من الجنود الأذريين على يد الأرمن، فيما أشارت بعض التقارير إلى إسقاط الجنود الأذريين مروحية عسكرية أرمينية في نوفمبر/تشرين الثاني من السنة نفسها، مما أدى إلى وفاة جميع أفراد طاقمها.

وفي غياب عملية سلام شاملة استمرت انتهاكات وقف إطلاق النار بين الجانبين وبلغت ذروتها في "حرب الأيام الأربعة" عام 2016 ثم في حرب " قره باغ" الثانية في خريف عام 2020، ليتم بموجب اتفاق وقعه البلدان استعادة أذربيجان الأراضي المحتلة سنة 1994 من طرف أرمينيا، وكذلك حصول هذه الأخيرة على منفذ بري إلى أراضيها، وانتهى الصراع بهدنة تم التوصل إليها بعد وساطة روسية.

وعادت الاشتباكات بين البلدين لتطفو على السطح من جديد، في وقت شهدت فيه أرمينيا انتفاضة داخلية في عام 2018 أدت إلى الإطاحة برئيس الوزراء سيرج سيركسيان بعد أن جابت مظاهرات حاشدة شوارع العاصمة الأرمينية يريفان دعما لزعيم المعارضة نيكول باشينيان الذي أبرم اتفاقا مباشرة بعد توليه السلطة مع رئيس أذربيجان إلهام علييف يقضي بتهدئة التوتر القائم بين البلدين.

(FromL) Azerbijani Minister of Foreign Affairs Elmar Mammadyarov, with his French counterpart Philippe Douste-Blazy and Armenia's Vardan Oskanian join hands, 24 October 2006 in Paris, prior to a meeting of "the Minsk group" a sub commitee of the Organisation for Security and Co-operation in Europe (OSCE) to find a negociated solution for the Nagorny-Karabakh's conflict. AFP PHOTO FRED DUFOUR (Photo by FRED DUFOUR / AFP)
وزير خارجية أرمينيا (يمين) مع الفرنسي فيليب دوست (وسط) ووزير الخارجية الأذربيجاني عام 2006 (الفرنسية)

وفي عام 2019 أصدر البلدان بلاغا مشتركا يعلنان فيه حاجتهما إلى ضرورة إيجاد حلول ملموسة من خلال تبني سياسات فعالة لتهيئة شعبي البلدين للسلام، لكن هذا البلاغ لم يسفر عن أي نتائج بين الطرفين واستمرت الأوضاع على ما هي عليه، حيث أعلن في 13 سبتمبر/أيلول من السنة نفسها عن اندلاع اشتباكات بين قوات أذربيجان وأرمينيا، في تجدد للقتال المستمر منذ عقود بينهما.

وفي 27 سبتمبر/أيلول 2020 اندلعت الحرب مرة أخرى بين الطرفين واستمرت نحو 6 أسابيع، وحققت فيها القوات الأذرية تقدما عسكريا كبيرا، ووصلت إلى حدود عاصمة الإقليم ستيباناكيرت، قبل أن تتوقف مرة أخرى بعد توقيع اتفاق يوم 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2020.

وفي سبتمبر/أيلول 2023 شنت باكو عملية عسكرية في إقليم ناغورني قره باغ خلفت مقتل ما لا يقل عن 200 شخص وإصابة مئات آخرين، إضافة إلى إجلاء أكثر من 10 آلاف شخص -بينهم نساء وأطفال- من أماكن إقامتهم إلى مناطق أخرى، حسب ما أعلن مسؤول انفصالي في الإقليم.

في المقابل، قالت أرمينيا إن 32 شخصا قتلوا وأصيب أكثر من 200 في أقل من 24 ساعة خلال العملية العسكرية. وبعد "وساطة" روسية وافق المسلحون الأرمن على إلقاء السلاح بعدها بيوم، وأعلنت أذربيجان بسط سيادتها على الإقليم.

الخسائر البشرية

دام الصراع بين البلدين الجارين ما يزيد على 100 عام، وخلفت الحروب بينهما خسائر بشرية مهمة بعد أن تسببت حرب ناغورني قره باغ الأولى سنة 1992 في مقتل أكثر من 30 ألف شخص، إضافة إلى نزوح ما يقارب 725 ألف أذري وأكثر من 300 ألف أرميني.

وأسفرت الحرب الثانية عام 2020 عن مقتل نحو 6500 شخص، كما تسببت مجموعة من المعارك والاشتباكات الصغيرة للسيطرة على المنطقة في خسائر مادية وبشرية كبيرة، مثل أحداث أبريل/نيسان 2016 التي تسببت بمقتل ما يقارب 110 أشخاص، وأحداث سبتمبر/أيلول 2023 التي خلفت مقتل أكثر من 200 شخص وإصابة مئات آخرين، إضافة إلى إجلاء أكثر من 10 آلاف شخص إلى مناطق متفرقة في الإقليم.

المصدر : الجزيرة