البيروقراطية.. تنظيم للعمل أم عرقلة؟

البيروقراطية هي البنى والهياكل التي يقوم عليها تنظيم السلطات الإدارية وتوزيعها، وتحديد الصلاحيات وتسمية المسؤولين وتراتبيتهم، في أي إطار منظم وفق القوانين ويخضع لسلطة معينة. ويشيع استخدامها في وصف هياكل الإدارة الرسمية التابعة للحكومة في بلد ما وقوانينها ونظمها وموظفيها.

الأصل اللغوي
نجد في كلمة بيروقراطية الجذر اللغوي الفرنسي (bureau) وتعني المكتب، واللاتيني (kratos)، وتعني السلطة. مما يحيل إلى ارتباطها الوثيق بالسلطة مع ما يترتب عليها من قوانين فوقية، ومن غياب لمفهوم الانتخاب كأداة من أدوات إسناد الصلاحيات الذي يتم غالبا بالتعيين أو التسمية.

وشاع مفهوم البيروقراطية بفضل عالم الاجتماع ماكس فيبر (1864-1920)، وأطلقه في البداية على كل أشكال التنظيم الهيكلي الفوقي الخاضع لسلطة مركزية عليا لها كامل الصلاحيات، في حين لا تتمتع المستويات الدنيا من الهرم البيروقراطي بأي صلاحيات إلا عن طريق التفويض، وليس لها أن تناقش التعليمات والأوامر الصادرة عن قمة الهرم.

تأويلات متباينة
وحظي مفهوم البيروقراطية باهتمام كبير نظرا لارتباطه الوثيق بمصالح الناس وشؤونهم اليومية التي تضطلع الدولة بالمسؤولية الأولى في التصدي لها، ووضع أدوات ومساطر تنظيمية لتلبيتها وفق منطق عقلاني، وهنا نجد فريقا من الباحثين الاجتماعيين يربط بشكلٍ وثيق بين البيروقراطية والنزعة العقلانية لتنظيم العمل وتدبير الشأن العام، بحكم أن الدولة نفسها ليست إلا إطارا للعيش ناتج عن تنازل جماعي عن بعض الحقوق والصلاحيات من أجل إطار عيش يسع الجميع.

ويرى أصحاب هذا الرأي -وأبرزهم ماكس فيبر- أن البيروقراطية أمر حيوي لبقاء الدولة واضطلاعها بمسؤولياتها، وهو أمر مستحيل التحقق دون تمتيع أجهزة الدولة بصلاحيات وسلطات واسعة تُجسدها البيروقراطية، بناء على مرتكزات رئيسة منها:

فصل المنصب أو الصفة عن الشخص المسندة إليه: بمعنى أن الشخص عابر والصفة والمنصب والصلاحيات المتعلقة بهما، مستمرة استمرار الدولة نفسها.

توحيد الإجراءات وإخضاع كل طالبي الخدمة لها دون تمييز.

التراتبية: وتقوم على التناسب الطردي للصلاحيات والمسؤولية، وهذا من مواطن ضعف البيروقراطية، فالموظف البسيط الذي هو المشرف المباشر على تقديم الخدمة ليست له صلاحيات، وبالتالي لا يتحمل أي مسؤولية سياسية عن تردي مستوى الخدمة.

الرقابة والمحاسبة
وشهدت أربعينيات القرن العشرين ظهور تيار ثانٍ يُبرز مواطن الخلل في البنية البيروقراطية واتساع الهوة بينها وبين المواطن البسيط، الذي يفترض أنه هو هدف البيروقراطية الأول بحكم الخدمات التي يفترض أن تقدمها له.

وفي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، برز تيار ثالث تناول بالنقد الحاد الفوارق الكبيرة بين النظرية والتطبيق، مُبرزا بالخصوص أوجه القصور في التفاعل بين مسؤول يحاول تطبيق رؤيته، وبين موظفين تابعين له يُحوِّلون تلك الإرادة -ربما دون قصد- أثناء تطبيقهم لها.

وبحلول ستينيات القرن العشرين وما شهدته من تحولات هائلة في مختلف مجالات الصناعة والتجارة والبحث العلمي، بدت أساليب تنظيم العمل الخاصة بمجتمع الثورة الصناعية متجاوزة لصالح أنماط جديدة من التنظيم، تُشجع المبادرة وتستند على الفعالية في الإنجاز وتوزيع الصلاحيات بشكل واسع وبعيد عن المركزية.

ومن مواطن الضعف البارزة في النموذج البيروقراطي، أنه قائم أصلا على الترشيد والتدبير العقلاني للموارد بعيدا عن المخاطرة، وهو ما لا يتسقُ إطلاقا مع قواعد المنافسة في السياق العالمي الجديد الموسوم بتسارع النمو الاقتصادي والطفرات التكنولوجية المتتالية.

ومن هنا نشأ البعد السلبي أو القدحي الذي ارتبط بمفهوم البيروقراطية، إذ صارت رديفا لبطء الإدارة وعسر الحصول على الخدمات والمصالح التي يُفترض أنها تقضيها للناس.

والغريب أنَّ هذا الرافد السلبي الطارئ تغلب على كل ما سبقه وبقي راسخا في الأذهان، ليس فقط على المستوى الشعبي البسيط بل نجده في تقارير المنظمات الدولية عبر العالم.

ومع ازدهار العالم في مختلف المجالات خاصة الاقتصادية والتقنية، باتت البيروقراطية عاجزة عن مسايرة ما يترتب على الواقع الجديد من تعقيدات.

فالشركة العالمية ذات الفروع في عشرات الدول، والتي تُشغل آلاف العمال المنحدرين من بيئات اجتماعية وثقافية مختلفة، وتُنتج مئات المنتوجات وتتعامل مع آلاف الزبائن عبر العالم في سياقات اقتصادية واجتماعية مختلفة، ومع فوارق توقيت قد تصل إلى يوم كامل؛ لا يمكن أن تخضع لأساليب تنظيم إدارية قائمة على مركزية شديدة، ويحتاج أبسط قرار فيها إلى سلمٍ إداري طويل معقد.

هذا إلى جانب الأثر السلبي الذي يخلفه ارتباط مبدأ البيروقراطية بكثير من ممارسات الفساد التي تفسح لها المجال المساطر الطويلة المعقدة، جاعلة طالب الخدمة -سواء كان مواطنا عاديا أم مؤسسة اقتصادية- رهين سلطة الموظف.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية