شعار قسم ميدان

من "العزيمة" لـ"السوق السوداء".. قصة ظهور السينما الواقعية بمصر

midan - فيلم المظاهر
لم تتأخر مصر كثيرا في التعرف على الاختراع الذي غيّر العالم في نهاية القرن التاسع عشر والمسمى بالـ "سينماتوغراف"، أو فن الصور المتحركة، ففي كتابه "دراسات في تاريخ السينما المصرية" يشير الناقد محمود علي إلى أن أول عرض للفن الوليد في مصر كان في مدينة "الإسكندرية" عام 1896، قبل أن يتبعه عرض لاحق في العاصمة خلال نفس الشهر، أي بعد عام واحد فقط من اللحظة التاريخية التي عُرض فيها فيلم "وصول القطار إلى المحطة" للأخوين لوميير إلى "جراند كافيه" في باريس عام 1895، وفزع الناس حين ظنوا أن قطارا حقيقيا قادم نحوهم، حيث بدأت لحظتها السينما كما نعرفها حتى اليوم (1).

دخول مصر إلى مجال "الصناعة" ذاته تأخر قليلا قرابة عقدين كاملين، كان "فن السينما" فيهم قد تشكّل بصورة أوضح، وعرف العالم مؤثرات وخدع "جورج ميلييه" وأدركوا المونتاج مع "ديفيد جريفيث"، قبل أن يبدأ شكل من أشكال الصناعة السينمائية في مصر عام 1917، عن طريق أفلام تسجيلية قصيرة من إنتاج "الشركة السينمائية الإيطالية المصرية"(2)، ورغم أن صُنّاع تلك الأفلام كانوا من غير المصريين فإن الشيء المهم فعلا كان وجود الممثل والمخرج "محمد كُريم" ضمن فريق العمل، وهو الذي سيصبح بعد ذلك صانعا لأهم وأنجح الأفلام المصرية في الثلاثينيات، حيث بدأ بالفعل شكلا واضحا لـ "صناعة أفلام روائية"، بعد إنتاج عدة أفلام أهمها "ليلى" (أول فيلم مصري طويل والذي عرض في 17 (نوفمبر/تشرين الثاني) 1927(3)) و"قبلة في الصحراء" (1927 أيضا) ثم أفلام "كريم" نفسه: "زينب" (1930) و"أولاد الذوات" (1932)، ثم شراكته مع الموسيقار محمد عبد الوهاب في 7 أفلام أهمها "الوردة البيضاء" (1933) و"يحيا الحب" (1938).

في تلك المراحل كلها لم يكن هناك ما يسمى بـ "الواقعية"، أو بصورة أخرى كانت الأفلام تهتم فقط بطبقة "أولاد الذوات" (كما سمى "كريم" فيلمه)، الطبقة العليا الغنية التي تعيش داخل القصور ولا ترى الشارع، بعيدا عن الحارات والفقراء. ذلك التوجه له عدة أسباب، ولكن السبب الأهم على الإطلاق كان الرقابة. في كتاب "تاريخ الرقابة على السينما في مصر" يشير الناقد والمؤرخ سمير فريد إلى تجذر فكرة المنع منذ بداية السينما المصرية، وهو الأمر الذي بدأ منذ عام 1911، حين تضم إضافة "السينماتوغراف" إلى قانون الرقابة على الصحف، والذي يشمل -ضمن بنود كثيرة- أنه "لا يسمح بالمناظر أو المظاهر التي من شأنها أن تمس شعور المصريين أو نزلاءنا الأجانب"(4)، وهو القانون الذي تطور بعد ذلك إلى شكل أكثر تقييدا يدور بالكامل حول إظهار صورة جميلة لمصر، ليصل الأمر إلى منع أحد التجارب التسجيلية المبكرة للمخرج "محمد بيومي" من العرض لأنه يُظهر أسرة مصرية تأكل على "طبلية"، أو قيام "كريم" بغسل الشجر بالماء قبل كل مشهد لتظهر الشوارع في أفضل صورة. لذلك لم تكن متاحة الحركة بحرية داخل طبقات المجتمع أو عكس صورته الحقيقية، حتى عام 1939 حين عرض كمال سليم فيلم "العزيمة".

"العزيمة".. جذور النموذج السينمائي للواقعية
ارتباط فيلم
ارتباط فيلم "العزيمة" بفكرة "بداية الواقعية" منطقي للغاية (مواقع التواصل)


في كتاب "صورة الحارة في السينما المصرية"، وهو بالأساس رسالة دكتوراه من جامعة مونتريال الكندية، تقول الباحثة مي التلمساني إن فيلم "العزيمة" للمخرج كمال سليم يُمثّل "أول وعي سينمائي بالحي الشعبي بوصفه المكان الأصل الذي تتجلى فيه الشخصية المصرية، وذلك في مقابل الأحياء السكنية الجديدة التي يطغى عليها الطابع الأوروبي"، وتوضح أنه على الرغم من وجود أفلام أخرى تعاملت مع نموذج "الحارة" أو ابتعدت عن القصور والأغنياء، مثل "المعلم بحبح" عام 1937 أو "لاشين" عام 1939، فإن الأول اتخذ شكلا هزليا، والثاني صورة تاريخية. وبالتالي فارتباط فيلم "العزيمة" بفكرة "بداية الواقعية" منطقي للغاية.

الفيلم، الذي قام ببطولته حسين صدقي وفاطمة رشدي، يدور داخل حارة مصرية شعبية، وحول الشخصية الرئيسة "محمد"، الشاب الفقير المتعلم والمحمل بالقيم والأخلاقيات والنزاهة التي اكتسبها من نشأته، في مقابل شخصية "عدلي" (قام بالدور أنور وجدي) ابن الأغنياء المستهتر الذي يبدد ثروة أبيه. كان الفيلم هو التجلي الأول لفكرة "ابن البلد الذي يتمسك بقيم الحارة، ونقيضه الذي يتخلى عنها ومن ثمت يتعرض للنبذ والعقاب" "ليصبح من يخرج منها هو شخص ملعون سقط في الغواية، بينما الخير في الالتزام بمبادئ الحارة"(5). كذلك يكرس الفيلم لصورة "الفقير النزيه" في مقابل "الغني المستهتر"، وهي الصورة التي حافظت عليها السينما المصرية لعقود بعد ذلك.

والتأمل في "صورة الواقعية" في "حارة كمال سليم"، سواء من ناحية الشكل أو من ناحية المضمون، ليس مهما فقط لفهم الفيلم نفسه، بل للتعامل مع قالب "الواقعية" الذي عكسته السينما المصرية بعد ذلك لعقود، فالحارة هنا "واسعة" ودائرية، يطل الجميع على بعضهم، هناك السقا والفرّان والشيخ والبقال وصاحب القهوة، عائلة واحدة كبيرة والجميع يتميز بأخلاقيات "ابن البلد" كأهم سمة لهم، لدرجة أنهم يتكاتفون في المعركة الختامية للفيلم من أجل نصرة محمد بوصفه "ابن الحارة" المتعلم في مواجهة الجزار الشرير المنبوذ. هذا النموذج "المثالي" جدا للمكان، حيث الأخلاقيات العليا التي تنبذ ما يعاكسها، مع مساحة من النقد الاجتماعي المبطن لبعض الظواهر (كالبطالة والرشوة والواسطة في حالة "العزيمة")، هو "القالب الواقعي" الذي ظل يتكرر بعد ذلك في عشرات الأفلام المصرية التي كان "العزيمة" هو الأب الروحي لها، وليس غريبا أبدا أن صلاح أبو سيف، رائد الواقعية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي بعد ذلك، كان مساعدا لكمال سليم في كل خطوات صناعة الفيلم، وظل هذا هو نموذج الواقعية الذي ينتمي إليه بعد ذلك.

"السوق السوداء".. وجه آخر للواقعية
فيلم
فيلم "التلمساني" خرج من قلب اللحظة التاريخية، مسايرا لموجات الواقعية التي ضربت العالم كجزء من أثر الحرب (مواقع التواصل)


بعد وقت قليل من عرض فيلم "العزيمة" بدأت الحرب العالمية الثانية، الحدث الذي أثّر في أفلام وسينما كل بلدان العالم. ولم يكن الأمر مختلفا في مصر، بل ربما جاء الأثر بشكل أكبر، حيث تضاعف عدد الأفلام المنتجة، بسبب "أثرياء الحرب"(6) هؤلاء الذين اكتسبوا ثروة ضخمة وأرادوا دخول مجال الأفلام بحثا عن "غسيل للأموال" من ناحية، أو مكسب سريع وضخم من ناحية أخرى. وبالنظر إلى الأرقام فإنه في الوقت الذي أنتجت فيه السينما المصرية 16 فيلما عام 1943 فإن العدد وصل إلى 28 عام 1944، قبل أن يقفز إلى 67 فيلما عام 1945(7). وعلى الرغم من ضعف المستوى العام لأغلب تلك الأفلام، والتوجه التجاري الصريح الذي تأخذه دون طموح فني، فإن كثرة الإنتاج ساهم في ظهور مخرجين لديهم رؤية فنية ورغبة كبرى في صنع الفارق، ومن بين هؤلاء كان كامل التلمساني، الذي أخرج عام 1945 فيلمه "السوق السوداء".

فيلم "التلمساني" خرج من قلب اللحظة التاريخية، مسايرا لموجات الواقعية التي ضربت العالم كجزء من أثر الحرب. يتناول تحديدا جانبا من حكايات تجار السوق الذين اغتنوا استغلالا للوضع السياسي والاقتصادي، من خلال قصة "أبو محمود" (وهو الشخصية الأهم في الفيلم حتى لو لم يكن البطل الرئيس) الذي يقرر مشاركة البقال "عبد العال" في جمع السلع من السوق وتخزينها في وقت الحرب، قبل أن يبيعوها بأضعاف أثمانها. و"أبو محمود" هو محور الفيلم لأن التغيرات التي تطرأ على حياته هي المعضلة الأساسية، علاقته بجيرانه وشركائه وبيته وعائلته، وصولا إلى زواجه من راقصة (كشكل الغواية التقليدي في الإرث الثقافي المصري)، قبل الوصول إلى نهاية تطهرية وكلاسيكية بالطبع.

undefined

يقدّم العمل شكلا مغايرا من "الواقعية"، أكثر سوداوية وقربا من السياق التاريخي، فالحارة هنا ليست مثالية كحارة كمال سليم، لا على مستوى الشكل ولا المضمون. فمن ناحية الصورة هي أقرب إلى الحارات المصرية الحقيقية، من حيث الطابع المستطيلي وتقارب البيوت من بعضها والزحام الشديد في الأسواق والحركة. ومن ناحية المضمون أيضا لا يحتفي العمل بفكرة "ابن البلد" وأخلاقيات المكان، على العكس.. فأفراد الحارة متباينون في تعاملهم مع اللحظة، ويحاول بعضهم استغلال البعض الآخر بالتجارة والسلع و"السوق السوداء". كذلك يمتاز الفيلم بقدرته على مسايرة اللحظة التاريخية، وتصوير "الغارات الجوية" وأثرها في حياة المصريين خلال زمن الحرب، بل وتأثيرها في مجرى الأحداث بعد موت إحدى الشخصيات في غارة بالإسكندرية وقدوم زوجته إلى القاهرة. لذلك فقد كانت صورة "واقعية" أقرب إلى الواقع بالفعل.

ولكن ما حدث أن الفيلم فشل بشكل كامل من الناحية التجارية، وعلى الأغلب لم يحب المشاهدون في هذا الوقت أن يروا مقاربة بهذا القدر من المكاشفة لحياتهم خارج السينما. وفي الوقت الذي كلّف فيه فيلم مثل "طاقية الإخفا" (إنتاج 1944) أربعة آلاف جنيه وجلب إيرادات سينمائية وصلت إلى 92 ألف جنيه(8) فإن فيلم "السوق السوداء" لم يجلب أكثر من بضع مئات من الجنيهات، في خسارة كبيرة لمنتجه وإحباط أكبر لكامل التلمساني، الذي اتجه بعد ذلك إلى أفلام ذات صبغة تجارية (مثل البريمو – 1947، وشمشون الجبار – 1948) وترك المشروع الواقعي الذي بدأه بقوة وعناية واهتمام(9). وعلى الأغلب كانت تلك اللحظة فارقة في مسار السينما المصرية بشكل عام، حيث تم، ولعقود طويلة جدا، اعتماد "الواقعية" المخففة التي انتهجها كمال سليم وأكملها صلاح أبو سيف، والتي تحتفي بالفقر وفكرة "ابن البلد"، في مقابل خفوت واقعية "التلمساني" الجارحة.